الثورة – رفاه الدروبي:
“السماق المر” رواية خطّتها أنامل الكاتبة حسيبة عبد الرحمن، فنَّدت فيها جرائم حافظ الأسد، وسطوه على ثروات التجار وأصحاب الأملاك بحجة التأمين والإصلاح الزراعي، ثم قضائه على شيوخ الساحل، وكيفية انتزاعه للسلطة من رفاق دربه، كما وقفت الكاتبة بثبات تحاكمه، وتروي الأحداث بلسان أصحابها مستندة إلى حقائق ووقائع صحيحة، عما جرى في سوريا والوطن العربي، حبكت مجريات الأحداث بدقة سردية ذات جمل سهلة سلسلة، مستثنية الجزء المتعلق بأسرته، واعتبرت أنَّ معاناتها كانت تلفُّ بلداً حكمها ديكتاتور بأقفاص السجون والدم والنار بحيث لم يسلم من أذاه أحد، سواء أكان أفراداً أم شرائح المجتمع السوري ومن ضمنهم سدنة حكمه.
السماق المر
وقَّعت حسيبه روايتها “السماق المر” في مقهى الروضة الكائن في شارع العابد بدمشق، وسط جمهورغفير من المثقفين وقادة الرأي، إذ حملت بين دفتيها ٣٧٠ صفحة من القطع المتوسط ،صدرت عن دار نينوى للنشروالتوزيع.
الكاتبة تنتمي إلى قرية عين الشمس الواقعة غربي مدينتي حماة ومصياف، وتلاقيهما معاً، لكنَّها عاشت وسط بساتين كفرسوسة المتَّجهة حتى حقول الصبَّارة في حي المزة، واستنشقت عبير ياسمينها فكأنَّ عين الشمس أضاءت الحقائق لها لتنطلق منها وتقف في وجه جزَّار سجنها ست سنوات ليكون سجن دوما شاهداً على معاناتها لفترة امتدت بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بسبب انتمائها لحزب العمل الشيوعي.
تدور مجريات الرواية حول شخصية الديكتاتورأمين أي -حافظ الأسد-، إذ أطلقت عليه صفة أمين كأسلوب استهزاء، مُسترجعةً كلَّ الأحدث الجارية خلال ستة عقود، تناولت فيها كيفية غدره وقتله أثناء سيرالنعش السنديان، ونقله جواً من دمشق إلى مسقط رأسه في اللاذقية، وحبكت أحداثها ضمن بانوراما متعددة الطبقات بدأت منذ ولادته ونشأته وما رافقها من الجوانب الاجتماعية، السياسية، التاريخية، وذلك من خلال الأماكن الماربها النعش فتتدفَّق الأحداث، وعند كلِّ حدث أو موقف يطلُّ وجه أو نعش أو ظلال لشخصيات تُنغِّص عليه لحظات موته، ويكون في قمة مجده، كما يظن، وتحاسبه عن كلِّ ما فعل بها من اعتقال ونفي وتدمير وقتل، سواء لرفاق دربه أو لخصومه السياسيين فتحرمه متعة الاستمتاع بمجد خرابه.
كانت شخصية الديكتاتور محورية، وأساسية ويدور في فلكها باقي الشخصيات والوجوه، سواء المناوئة أم الصامتة، بحيث تتخلل لحظات الصمت أصوات عديدة منها صوت مجنون يصرخ وسط الجنازة، وأصوات أخرى تلتبس عليه ما بين صوت ضميره وإجرامه، بينما يدافع عن نفسه بعنجهية المنتصرأمام الجنازات المحيطة به ليثبت لهم أنَّه الأفضل والأقوى وصاحب المجد، فيما تطارده شخصية المهاجرالدينية من قتل ونفي أبنائه ليظهر له حفيد الشيخ على ضفاف المتوسط ميتاً بحيث يحاصره بكلِّ ما اقترف من جرائم قبل حكمه وأثناء ذلك.
خصوصيتها
اعتمدت الكاتبة حسيبة في روايتها على خصوصية الصور ضمن تقطيع تلفزيوني كبديل للسرد الكلاسيكي المتعارف عليه، لأنَّ هناك أحداثاً كثيرة تعتمد ذاكرة المكان أثناء مرورالنعش في سمائه، ما دفع الديكتاتور إلى التذكر الإكراهي نتيجة حضور بطل أو أبطال الحدث في المكان سواء بوجوههم أم بأجسادهم وأحياناً بظلالهم، بسبب تشابك الأحداث السياسية والصراعات المتعددة داخلياً وإقليمياً ودولياً، فاختارت شكلاً روائياً تحسبه جديداً، وتركت الحكم عليه لقادة الرأي من الأدباء خاصة بما يتعلق بمساهمته الإيجابية أو السلبية في سير أحداث التاريخ، إمَّا أن يبقى العمل عملاً مهماً أو مجرد رواية مهملة لا ذكرلها.
بينما تكون الصورة الأولى في الرواية لحظة رفع نعش وسط أرتال العساكر وباقي الحشود المدنية، ومنها انتقلت إلى صورة أخرى: صورة ولادته تحت شجيرات السماق ولحظة وشم زنده بقرن سماق ما يُسمَّى “شهوة ” ميَّزته منذ ولادته في ثلاثينيات القرن الماضي، كما وسمت الصورة ذاتها طفولته بالفقروالفاقة، ما شكَّل خلفيَّة لحقده على أبناء العائلات، وصولاً إلى انتسابه لحزب البعث والتحاقه بالكلية وما تلاه من صراع سياسي وطبقي، إضافة إلى خياراته التكتلية بدءاً من اللجنة العسكرية وتصفيته لأعضائها على مراحل، مستغلاً الصراعات السياسة ما بين الناصريين والبعثيين، ثم اقتلاع الناصريين من الحكم بعد انقلابهم معاً على سلطة الانفصال، وصراع البعثيين الدموي ضد بعضهم البعض، وانقلاب كلّ مجموعة على الأخرى خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، إذ انتهت مع انقلاب الأسد على رفاقه وزجِّهم داخل السجن حتى الموت بعد حصوله على توافق دولي وداخلي ليبدأ حكمه المتميز بالديكتاتورية، والصراعات الدموية وإفشاله لمحاولات الانقلاب المتعددة ضد حكمه وتحويل سوريا إلى سجن كبير، وتفتيت قواها السياسية والمجتمعية ومحاولة وأدهما.
قاسيون لا يقبل السماق
تتناول رواية “السماق المر” الأحداث بشكل رمزي متخيّل وفق تدرُّج لبانورامية سياسية تسرد فيها قصة الشيخ المهاجر مَنْ طلَّق جدته لأنَّ ابنها ارتكب جريمة قتل، ولا يريد قاتلاً يعيش في بيته، كما تتناول غدره بصلاح جديد، ومحمد عمران، وما فعله بالمجتمع السوري، وسمته لكل من رافق مسيرته داخل البعث بالاعتقالات والخلافات مع ياسر عرفات، وصدام حسين، ثم اغتياله لكمال جنبلاط، وما ارتكبه من مجازر بحق أهالي حماة، ومحاولة زرع السُّمَّاق على جبل قاسيون؛ لكنَّ محاولاته باءت بالفشل فزرع شجرة مشمش ليكتب يوم انقلابه بماء السماق.
استقت عبد الرحمن معلوماتها من ضيوف والدها البسطاء، لتلتقط أذناها أطراف الحديث منهم أثناء لعب الورق والطاولة، نأى عنها الأب ليتركها للضيوف من خلال سرديات تدور حول أوهامهم في القرية وتنقلات الجيش، ولم تكتفِ بها بل كانت تتنقل بين بيوت رفيقاتها وتحتكُّ بمعلماتها في المدرسة، وبأهالي كفرسوسة وبساتين الصبار في المزة، إذ كان الجانب المتخيل بمثابة المشروع لديها، كما لم ترتكز على مفاهيم المنطقة بل أكملت حياة “حافظ الأسد” المجرم كي تعرف ماذا يحدث في الخفاء لسوريا من خلال البنية النفسية للمجتمع المحلي، متناولةً قسماً من شخصياتهم وربطتها بوالده قاطع الطريق.
إخفاء الأسماء وحضور الحدث
لجأت الكاتبة إلى تغييب الأسماء والأماكن لأنَّها كتبتها قبل سقوط النظام البائد، فاكتفت بالإشارة إليها، إذ لا يوجد تسمية للأماكن الواقعة فيها أحداث الرواية، نتيجة القمع ومحاولة التهرُّب من صدور قرار المنع، ومع ذلك مُنعت رواياتها فوزَّعتها كبيان سري، تتناول شخص الديكتاتور وصراعاته السياسية والاجتماعية مع الداخل والمحيط كونها أخذت حيِّزاً من مساحة الرواية مع وجود تفاصيل صغيرة متعلقة ببعض الشخصيات، سواء من كانوا يشغلون أماكن مهمة في سلطته أو من دخل معهم في صراع لما يضمره من أحقاد طبقية وشخصية.
أعمالها
تركت حزب البعث وكل المنظمات الملحقة به أثناء المرحلة الثانوية، بسبب كرهها للظلم وسعيها للعدل، نتيجة ما رأته من فساد ومحسوبيات، وكان سهلاً عليها الانتقال إلى حزب سياسي معارض حديث الولادة كرابطة العمل الشيوعي، ما تسبَّب باعتقالها أول مرة، وكانت في العقد الثاني من العمر ثم عاودت النشاط السياسي ثانية واعتقلت ثلاث مرات، فكان مجموع سني الاعتقال ما يقارب ثماني سنوات واختفت عن الأنظار بأربع أخرى، لكن بعد اعتقالها الرابع بدأت نسج أحداث رواية “الشرنقة”، معتمدةً على قصاصات ورق كتبتها في السجن لتخرج أولى رواياتها إلى النور من الداخل السوري، وصدرت عن السجن السياسي أثناء مرحلة حكم الأسد الأب، ملقيةً ثقل السجن على الورق وأتبعتها بمجموعة قصص قصيرة عنوانها: “سقط سهواً” نصفها عن السجن، ثم انتقلت إلى موضوعات جديدة، فكتبت رواية: “تجليات جدي الشيخ المهاجر” المتضمنة حياة وثقافة منطقة الساحل.