الثورة – حسين روماني:
“ما تمّ إنتاجه من دراما في ظلّ النظام المخلوع والترويج لروايته لا يحمل أيّ قيمة فنية حقيقية” هو إجحاف، يمكن الاستعاضة عنه بـ”غالبية ما تم إنتاجه” هذه الجملة تبناها بعض من صناع الدراما، وهي ليست مجرّد تقييم نقدي، بل إعلان إدانة لمشهد درامي طويل ارتضى أن يكون واجهةً سياسية للسلطة، لا مرآة للمجتمع.
في السنوات العشر الأخيرة، لم تعد الدراما السوريّة حبيسة الرقابة فحسب، بل أصبحت أداة مباشرة في يد النظام البائد لإعادة كتابة الرواية السورية، وتمرير أكاذيب ممنهجة عن الثورة والدم والتعذيب والمجازر، في محاولة لترويض الذاكرة الجماعيّة ومحو الحقيقة.
“كونتاك” تُحوّل المجازر إلى نكتة!
قدم مسلسل “كونتاك” والذي أخرجه حسام الرنتيسي، وأنتجته شكرة إيمار الشام 2019، مثالاً فجّاً عن هذا الانحدار، ففي إحدى لوحاته، يظهر نشطاء وهم “يمثّلون” آثار قصف كيماوي أمام الكاميرا، في سخرية مباشرة من مجزرة الغوطة الشرقيّة، التي راح ضحيّتها أطفال ونساء وشيوخ كثر، المشهد لم يكن فقط استهزاءً، بل إعادة قتل للضحايا عبر إنكار المجزرة وتشويه حقيقتها.
السخرية من المأساة تحوّلت إلى سياسة دراميّة، فالمطلوب ليس إضحاك الجمهور، بل تثبيت رواية النظام التي تقول بأنه “لم يحدث شيء، وكل ما جرى مسرحيّة مفبركة”.
الاعتذار العلني الذي نشرته أمل عرفة عبر حسابها على فيسبوك وقتها: “أعتذر لأي سوري فتحنا له جرحاً أو ألماً بحلقة البارحة من مسلسل كونتاك، ولوعرفنا كيف سيتم مونتاج هذه اللوحة، لكنّا طالبنا بعدم عرضها من الأساس”، كان كبقعة ضوء على دائرة القرار وصناعتها في الدراما والصورة المراد تصديرها للخارج.
من “فارس بني مروان” إلى مخرج السلطة
لكن “كونتاك” ليس سوى قمّة جبل الجليد، فالمخرج نجدت أنزور، الذي يُحسب له تجديد في البدايات، سرعان ما تحوّل إلى رأس حربة في الدراما الدعائيّة بعد الثورة.
فذروة التجييش جاءت مع فيلمه الشهير “فانية وتتبدد” الذي كُتب وأُنتج بتمويل ودعم أمني، وصُوِّر على أنه “رد وطني” على تنظيم “داعش”، لكنه في الحقيقة كان أداة لتشويه صورة المعارضة برمّتها، من خلال خلط مقصود بين المعارضة والتنظيمات المسلحة، وتصوير المدنيين كمجموعة من المتآمرين أو المتخاذلين.
نجدت أنزور، الذي شغل لاحقاً موقعاً في “مجلس الشعب”، لم يعد مجرد فنان قريب من النظام، بل بات صانعاً لصورة الدولة كما تريد أن ترى نفسها، ضحية متفانية لا طاغية قاتلة، في أعمال عديدة منها “رجل الثورة” و”لأنها بلادي”.
دراما بلا ضحايا
تحوّلت الضحية في كثير من الأعمال إلى تفصيل هامشي، أو جُعلت شريكة في ذنبها، ففي مسلسلات مثل “سنعود بعد قليل”، و”بقعة ضوء” بنسخه المتأخرة، و”دقيقة صمت”، تم اختزال الكارثة السورية في الفساد، والخلل المؤسساتي، والانقسامات الاجتماعية، من دون أي إشارة إلى الأجهزة الأمنية، أو القمع، أو التعذيب، أو الاعتقالات الجماعية.
لم يكن غياب الحقيقة صدفةً بل استراتيجية، فالدراما أرادت أن تقول لا يوجد مجرم واضح، بل نحن جميعاً ضحايا، وهي أكذوبة هدفها محو المسؤولية من فوق المجرم الحقيقي.
الأجهزة الأمنية تكتب النص
لم تكن الرقابة في سوريا مجرد وظيفة موظف يحمل قلماً أحمراً، بل باتت منصّة كتابة ومونتاج كاملة، أصبح بعض ضباط الأمن شركاء فعليين في كتابة المسلسلات، وتحرير النصوص، وتوجيه المضمون، “ترجمان الأشواق” الذي أخرجه محمد عبد العزيز قبع في منفردة المنع ولم يسمح له بالحضور عبر الشاشات حتى تغيّرت مشاهد وحوارات بأكملها خدمةً للرقابة ومن وراءها، إلى أن أبصر النور مُقطّعاً ومشتتاً بعد عام كامل.
إنتاج سردية واحدة مفروضة، كان ذلك الهدف من كل عمل درامي الذي بدوره أصبح مطلوباً منه تمرير رسائل سياسية وأمنية، لا ثورة، لا ضحية، لا سجون، لا جثث، فقط دولة تعاني من فاسدين، وقائد يسعى للإصلاح.
أصوات حاولت التنفّس
رغم كل ذلك، لم تغب المحاولات الجريئة.. فبعض الكتّاب، مثل سامر رضوان، قدّم أعمالاً تحاول كسر القيد، كما في “الولادة من الخاصرة”، خاصة في أجزائه الأولى، قبل أن يبدأ النزاع مع الرقابة في الأجزاء التالية، ليجد في لبنان أرضاً محايدة لاستكمال التصوير.
الدراما التي نريدها
نحتاج اليوم إلى دراما تفكّك الكذب، لا تزيّنه.. إلى مخرجين لا يخافون من أن يسمّوا القاتل قاتلاً، والضحيّة ضحية، إلى أعمال تُعلّي من قيمة الحياة، لا تُسخّف الموت.
إن أخطر ما فعلته دراما السنوات الماضية، أنها جعلت المشاهد السوري يشكك في ذاكرته، ويتصالح مع جلّاده، ويضحك على معاناته، لهذا يجب على صنّاع الدراما اليوم تدعيم الذاكرة وتوثيق مجريات الثّورة خلال السنوات الماضية، والنظر إلى الأمام نحو دراما صادقة وحقيقية تمثلنا جميعاً.