الثورة- نور جوخدار
لم يكن الاستعراض العسكري الصيني الأخير مجرد عرض للأسلحة أو مشهدا بروتوكوليا بقدر ما كان خطوة استراتيجيا تحمل دلالات عميقة على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، فقد استعرضت بكين قدرتها على دمج القدرات الهجومية والدفاعية في منظومة واحدة متكاملة، تعكس رؤية قتالية متقدمة تمزج بين الردع العسكري والتموضع الدبلوماسي لتضع موازين الردع في صلب حسابات أي خصم محتمل.
وفي الوقت نفسه، حمل الاستعراض إشارات دبلوماسية واضحة إلى الخارج حول وزن الصين المتصاعد ومكانتها في المشهد الإقليمي والدولي مؤكداً دورها في صياغة ملامح النظام العالمي المقبل.
لم يقتصر الاستعراض العسكري الصيني على القوة فحسب، بل شكل منصة دبلوماسية لإعادة رسم موازين النفوذ في جنوب شرق آسيا والعالم، فقد حرصت بكين على استقطاب حضور أجنبي واسع، لتؤكد مكانتها كلاعب أساسي في قيادة الجنوب العالمي.
في المقابل، حمل الغياب دلالات سياسية واضحة، كما في حالة الفلبين المرتبطة استراتيجياً بالولايات المتحدة، بينما اكتفت سنغافورة بإرسال نائب رئيس الوزراء، في إشارة إلى حياد محسوب أو ميل نحو واشنطن، كما وفّرت مشاركة فيتنام وماليزيا وإندونيسيا وكمبوديا وميانمار دعمًا دبلوماسيًا لبكين، في صورة بدت للعالم أن غالبية دول المنطقة تفضل التعاون مع الصين على المواجهة، رغم استمرار النزاعات في بحر جنوب الصين.
وفي تقرير لـ “رويترز” سلط الضوء فيه على الطريقة التي استثمر بها الرئيس الصيني شي جينبينغ العرض العسكري في بكين، بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، لتأكيد نفوذه الداخلي والخارجي، مشيرا إلى أن أهمية المناسبة لم تقتصر فقط على مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بل شملت الرسائل السياسية حول استمرارية قيادة شي، خصوصاً بعد عقد على عرضه الأول مع سلفيه.
وأوضح التقرير أن العرض العسكري جاء تتويجا لأسبوع حافل بالنشاط الدبلوماسي، فقد عقد شي قمة مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على هامش اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين، وقام بزيارة نادرة إلى التبت الشهر الماضي.
وأشار التقرير إلى سعي شي لاستغلال هذه اللقاءات لتأكيد دور الصين كشريك موثوق للدول النامية، من خلال تقديم مبادرات استثمارية ومشروع لإنشاء بنك تنمية جديد ضمن منظمة شنغهاي للتعاون، التي توسعت لتضم الهند وباكستان وإيران.
ونقل عن رئيس تحرير مشروع “الصين والعالم الجنوبي” إريك أولاندر، قوله إن “رسالة الصين كبديل أكثر استقراراً من الولايات المتحدة تلقى صدى واسعا في آسيا وأجزاء أخرى من العالم النامي”، رغم تردد بعض الدول إزاء مبادرات بكين الجديدة.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف العرض بأنه “جميل” و”مثير للإعجاب”، لكنه اتهم الصين بالتعاون مع بوتين وكيم “للتآمر ضد الولايات المتحدة”، وهو ما نفاه الكرملين، معتبرا تصريحاته ذات طابع ساخر أكثر من كونه جدياً بحسب التقرير.
وفي ختام التقرير، أشارت رويترز إلى أن شي، الذي قد يسعى لولاية رابعة في 2027، يواجه تحديات كبرى أبرزها النزاعات الحدودية، والسياسات الصناعية المثيرة للجدل، فضلا عن انعدام الثقة العميق مع الهند.
على الصعيد العسكري، كشفت الصين عن “القبة الذهبية” الخاصة بها، في محاولة فسرت على أنها لمنافسة مشروع الدفاع الصاروخي الأمريكي.
صحيفة «نيوزويك» الأمريكية، ذكرت أن الصين استعرضت صواريخ اعتراضية مصممة للدفاع الجوي والصاروخي، وهي تنافس نظاماً مماثلاً تبنيه الولايات المتحدة، والمعروف باسم “القبة الذهبية”، مستعرضة ستة أنواع من الصواريخ الاعتراضية، وأحدث صواريخها النووية متعددة المسارات.
والقبة الذهبية الأمريكية هي مبادرة دفاع صاروخي بقيمة 175 مليار دولار، اقترحتها إدارة ترامب لاعتراض الصواريخ التي تستهدف الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يدخل النظام الخدمة بكامل طاقته بحلول نهاية ولاية ترامب عام 2029.
كما أبرز العرض “الثالوث النووي” الصيني، القدرة على تنفيذ ضربات نووية من البر والبحر والجو في آن واحد، تحول الصين إلى قوة نووية عظمى مكتملة الأركان.
وفي هذا الصدد أكدت وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” أن “الصين قدمت للمرة الأولى قواتها الاستراتيجية البرية والبحرية والجوية على شكل ثالوث نووي في العرض العسكري بمناسبة يوم النصر”.
وحلقت طائرات هليكوبتر تحمل رايات كبيرة وطائرات مقاتلة في تشكيلات خلال العرض الذي استمر 70 دقيقة مليئة بالرمزية والدعاية التي بلغت ذروتها بإطلاق 80 ألف حمامة سلام وبالونات ملونة.
ويعد هذا العرض الثاني من نوعه الذي تنظمه الصين إحياء لذكرى الانتصار على اليابان، بعد العرض الأول الذي أقيم في الذكرى السبعين عام 2015.