الثورة – همسة زغيب:
قراءة نقدية لرواية “الشيخ والبحر” للكاتب الأميركي إرنست همنغواي، تكشف الهزيمة النبيلة والكرامة الصامتة في مواجهة الحياة، إذ يلتقي الأدب بالفلسفة، في لحظة تأمل عميقة في جوهر الإنسان وصراعه مع الوجود. الرواية التي نُشرت عام 1952، تجاوزت كونها سرداً لحكاية صياد عجوز يُدعى سانتياغو، لتصبح مرآة تعكس صراعات الإنسان الداخلية والخارجية، وتجسّد فلسفة الكفاح النبيل حتى في وجه الهزيمة.
سلّطت جلسة اليوم التي أقيمت في “بيت البيرتو ” جرمانا، الضوء على البنية الرمزية للرواية، التي قدمها الأب “أوليفر بورغ” في نادي ألبيرتو للفنّ، ويُقدَّم البحر ككائن حي، لا كمجرد خلفية سردية. سانتياغو لا يصارع السمكة فقط، بل يصارع الزمن، الوحدة، والضعف، في رحلة وجودية تتجاوز حدود الصيد إلى اختبار الإرادة والكرامة. النقاشات التي دارت بين الحضور طرحت سؤالاً وجودياً: هل النصر هو ما نكسبه؟ أم ما لا نخسره رغم كل شيء؟
الصياد العجوز خرج إلى البحر لا ليصطاد سمكة فحسب، بل ليصطاد كرامته، ويؤكد لنفسه أنه لايزال قادرا على الوقوف في وجه الزمن. يلتقي بسمكة مارلين عملاقة، يقتلها بعد صراع مرير، ويظن أنه انتصر. لكن الحياة، كما البحر، لا تمنح انتصارات كاملة. تأتي أسماك القرش، جائعة هي الأخرى، فتنهش السمكة، وتنهش الحلم، وتنهش النصر، والسؤال لم يكن عن الصيد، بل عن معنى الحياة نفسها. هل نحن أمام عبثية الوجود؟ حين نصل إلى هدفنا الكبير، يأتي من يسلبه منا؟ هل كل ما نبنيه مهدداً بالانهيار؟ هل كل ما نصطاده، يُنهش قبل أن نصل به إلى الشاطئ؟
ومع ذلك، لا تترك الرواية القارئ في اليأس. هناك الطفل، ينتظر الشيخ، يؤمن به، يتعلّم منه، ويرمز إلى الأمل.
الطفل لا يصطاد، لكنه يرى في الشيخ نموذجاً. فهل يُمثّل الطفل الآمال المعقودة على الجيل الجديد؟ ربما. وربما هو وعد أن المعركة لا تنتهي، وأن البحر سيظل مفتوحاً أمام من يجرؤ على الإبحار.
كما تناولت الرواية أسلوب همنغواي المعروف “نظرية الجبل الجليدي”، يكتب بلغة مقتضبة تخفي تحتها طبقات من المعنى. بأسلوب يبدو بسيطا، يحمل في طياته تأملا فلسفيا في مفاهيم الحياة والموت، القوة والضعف، الصبر واليأس.
اللافت في النقاش ما يجمع بين الأدب العالمي والعربي، لا لربط بين “الشيخ والبحر” وأدب حنا مينا، خاصة روايته “الشراع والعاصفة”.
فبينما يواجه سانتياغو البحر وحده، يواجهه الطروسي كبطل جماعي، يحمل هموم مجتمع بأكمله. البحر عند مينا ليس فقط اختباراً للذات، بل أيضاً رمزاً للهوية، والمقاومة، والانتماء. هذا التداخل بين الرؤيتين أضفى على الجلسة بعداً ثقافياً غنياً، إذ تلاقى الأدب الأميركي والعربي في نقطة واحدة: الموج كصوت فلسفي.
وفي النهاية تم التأكيد أن البحر في الأدب ليس مجرد ماء وأمواج، بل سؤال مفتوح عن الإنسان حين يواجه نفسه، وحين يقرر أن يبحر، لا ليصل، بل ليبقى واقفاً في وجه العاصفة، ففي كل موجة، حكاية وفي كل هزيمة درس. والأدب لا يمنحنا إجابات، لكنه يعلّمنا كيف نطرح الأسئلة ونحن نبحر.
إرنست همنغواي ” 1899–1961″ كاتب أميركي يُعد من أبرز رموز الأدب الحديث. بدأ حياته صحفياً، وشارك في الحرب العالمية الأولى، مما أثر في كتاباته التي امتازت بالبساطة والعمق، فيما عُرف بـنظرية الجبل الجليدي. كتب روايات خالدة مثل وداعاً للسلاح ولمن تقرع الأجراس، ونال جائزة نوبل في الأدب عام 1954 عن روايته الشيخ والبحر. عاش حياة مليئة بالمغامرة، وانتهت بشكل مأساوي بانتحاره، تاركاً إرثاً أدبياً غنياً بالتأملات الإنسانية والصراعات الوجودية.