الثورة – جهاد اصطيف:
شهدت ساحة سعد الله الجابري بحلب، كما غيرها من ساحات الوطن، وبين حضور رسمي وشعبي واسع، الانطلاقة الرسمية لفعاليات “صندوق التنمية السوري”، الذي يعد أحد الأعمدة الأساسية في دعم إعادة الإعمار والتنمية في سوريا .
هذه المبادرة الوطنية الجديدة لم تكتف بالوعود، بل تطرح رؤية عملية شاملة لإعادة بناء البلاد بسواعد أبنائها، وتفتح باباً للمشاركة الشعبية في التنمية، في وقت تتعطش فيه سوريا إلى مشاريع حقيقية تعيد الأمل وترسخ الاستقرار .
مؤسسة مستقلة برؤية وطنية
يمتاز الصندوق بكونه مؤسسة مستقلة مالياً وإدارياً، ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، ما يمنحه مرونة تنفيذية واستقلالية في اتخاذ القرار .
هذه الخصوصية تتيح له الربط بين الواقع الاقتصادي واحتياجات الناس، وتعزز من قدرته على قيادة مشاريع تنموية حقيقية، بعيداً عن البيروقراطية التقليدية.
يقول المهندس حسن عبد الغفور، أحد الحاضرين في حفل الإطلاق بساحة سعد الله الجابري: الجميل في هذه التجربة أنها لا تكرر أنماط العمل القديمة، بل تقدم نموذجاً عملياً يقوم على المبادرة والسرعة في التنفيذ، وهذا ما نحتاجه فعلاً بعد سنوات من الركود .
يعتمد الصندوق– كما بدا واضحاً– على مصادر تمويل متنوعة، أبرزها التبرعات الفردية من السوريين داخل البلاد وخارجها، إلى جانب برنامج “المتبرع الدائم” الذي يتيح الاشتراك الشهري، والهبات والإعانات وفق الأنظمة النافذة، بالإضافة إلى عائدات المشاريع التنموية التي ينفذها الصندوق.
هذه المنظومة التمويلية تعكس روح التضامن الشعبي، وترسخ فكرة أن كل مواطن يمكن أن يكون جزءاً من الحل .
و أوضح الاقتصادي فادي حمود أن فلسفة التمويل هنا قائمة على المشاركة المجتمعية، بحيث يشعر كل مواطن أن مساهمته، مهما كانت بسيطة، هي لبنة في إعادة إعمار بلده .
أكثر من مشروع مالي
ما يجعل “صندوق التنمية السوري” مختلفاً، أنه ليس مجرد مشروع مالي، بل رؤية وطنية شاملة تقوم على التعليم، الصحة، الزراعة، البنية التحتية، والبيئة، مع إيمان عميق أن الإنسان السوري قادر على النهوض من جديد.
إنه مشروع يربط بين الحل والواقع بخطوات عملية، ويمنح كل سوري فرصة للمشاركة في إعادة بناء وطنه .
يشير المهندس عبد الغفور إلى أن ميزة الصندوق أنه يفكر بشكل متكامل، فلا يمكن أن نعيد بناء مدرسة بلا طريق يصل إليها، أو نزرع أرضا من دون شبكة ري، هذه النظرة الشمولية هي ما سيجعل التنمية واقعية وقابلة للاستمرار .
استثمار في المستقبل
في بلد أنهكته الحرب، يولي الصندوق – كما هو معلن – أهمية قصوى للتعليم، باعتباره حجر الأساس لأي تنمية مستدامة .
يعمل على إعادة تأهيل المدارس، دعم المعلمين، وإطلاق مراكز تعليمية متنقلة تصل إلى الأطفال في القرى والمخيمات .
التعليم هنا ليس خدمة فقط، بل استثمار في المستقبل وضمانة لسلام دائم .
إحدى الأمهات في ريف حلب الشمالي قالت والدموع تملأ عينيها : أطفالي لم يدخلوا المدرسة منذ خمس سنوات، إذا أعاد الصندوق افتتاحها، فهذا يعني أننا عدنا إلى الحياة.
في ظل انهيار المنظومة الصحية، يسعى الصندوق إلى تأمين العناية الأساسية عبر مراكز صحية وعيادات متنقلة، ويشكل توفير الوقاية واللقاحات والأدوية حجر الأساس لحماية حق السوريين في الحياة، ويعيد الثقة بالقطاع الصحي كمكون أساسي من مكونات الاستقرار .
ولعل العيادات المتنقلة التي تخطط لها وزارة الصحة ستصل إلى مناطق بعيدة لم يصلها أي طبيب منذ سنوات، وهذا وحده كفيل بإنقاذ آلاف الأرواح.
من إصلاح الطرق إلى إنارة القرى بألواح الطاقة الشمسية، يعمل الصندوق على مشاريع تعيد وصل المجتمعات النائية بالمراكز الأساسية، فالتنمية تبدأ من الماء والكهرباء والقدرة على التنقل، وهذه المشاريع تعيد الحياة إلى المناطق التي كانت خارج نطاق الخدمات لسنوات طويلة.
ويضيف المهندس عبد الغفور : الطاقة الشمسية ليست خياراً ترفيهياً هنا، بل هي الحل الوحيد لتأمين الكهرباء في مناطق معزولة، ومن خلالها يمكن تشغيل مضخات المياه والإنارة العامة وحتى بعض الورش الصغيرة .
نحو أمن غذائي مستدام
الزراعة والبيئة لهما أيضاً نصيبهما، إذ تحتلان موقعاً محورياً في رؤية الصندوق،
فالأرض التي أنهكتها الحرب تحتاج إلى استعادة عافيتها،
يدعم الصندوق المزارعين بالبذور والمعدات، ويشجع تقنيات الري المستدام والطاقة النظيفة، بما يضمن أمناً غذائياً ومجتمعاً أكثر صموداً في وجه الأزمات.
المزارع محمود الأمين من ريف حلب يقول : لو حصلنا على بذور جيدة ومضخات تعمل على الطاقة الشمسية، يمكننا أن نعيد الأرض إلى ما كانت عليه، وهذا الصندوق يمنحنا الأمل .
لا تقتصر التنمية على البناء المادي، بل تمتد إلى تعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال مبادرات تمكين الشباب والنساء، وتقديم القروض الصغيرة للمشاريع، إذ يساهم الصندوق في تخفيف البطالة والفقر، ويمنح الأسر شعوراً بالاستقرار والأمان، ويعيد الثقة بالمستقبل .
رغم العقبات المتعلقة بالتمويل وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق، فإن القائمين على الصندوق يضعون نصب أعينهم رؤية بعيدة المدى، تهدف لتحويله إلى منصة وطنية للتنمية، تجمع السوريين حول مشروع واحد، عنوانه سوريا المستقبل، فسوريا كما يراها الصندوق، هي بلد مدارسها مفتوحة، مستشفياتها عامرة، أراضيها خضراء، وناسها متكاتفون.
إنها رؤية تتجاوز الحدود والانقسامات، وتعيد بناء الوطن من الداخل، بروح جماعية وإرادة شعبية .
الاقتصادي فادي حمود يوضح : التحديات ضخمة، لكن ما يهم هو أننا بدأنا، والناس يلمسون شيئاُ حقيقياً على الأرض، وهذا أهم من أي خطة نظرية.
وعد بالأمل
“صندوق التنمية السوري” هو أكثر من مبادرة، إنه وعد بأن الأمل ما زال ممكناً، وأن التنمية يمكن أن تكون الطريق نحو سلام واستقرار دائمين، ففي زمن التحديات، يقدم الصندوق نموذجاً للوحدة والعمل المشترك، ويعيد الاعتبار لفكرة أن الإنسان السوري هو حجر الأساس في أي مشروع وطني ناجح .
ولعل أهم ما في هذه التجربة، أنها تعيد رسم صورة سوريا كما يتمناها شعبها، سوريا بمدارسها المضاءة وأطفالها المتعلمين، سوريا بمستشفياتها المجهزة وأطبائها العائدين، سوريا بحقولها الخضراء وشبابها العاملين، سوريا التي تنهض من رماد الحرب لتبني حاضرها ومستقبلها.