الثورة – جاك وهبه:
في تصريحات أثارت جدلاً واسعاً، أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية، أن البنك بدأ العمل على تفعيل نظام التحويل المالي العالمي “سويفت”، في خطوة يُعتقد أنها قد تمهد لإعادة ربط القطاع المصرفي السوري بالمنظومة المالية الدولية.
هكذا خطوة لا شك يُنظر إليها على أنها قد تمثل نقطة تحول في مسار الاقتصاد السوري بعد سنوات من العقوبات، تتجه الأنظار نحو عودة البلاد المرتقبة إلى نظام التحويلات المالية العالمي “سويفت”..خاصة بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا.
لكن هل تفعيل “سويفت” في سوريا أمر ممكن فعلاً؟ وما التداعيات المحتملة لذلك على الواقع الاقتصادي المتعثر في البلاد؟
مع العودة إلى “سويفت” وحسب المؤشرات يتيح النظام للمصارف العاملة إجراء التحويلات المالية بشكل مباشر وشفاف وبتكلفة أقل بكثير من الآليات البديلة التي اضطرت سوريا للاعتماد عليها سابقاً، ما يعزز من كفاءة العمليات المالية ويقلل من المخاطر المرتبطة بالوساطة غير الرسمية، بحسب تعبيره.
لكن هل الأرضية مهيأة ياترى ..؟
في رده على هذه التساؤلات كشف الخبير في الشؤون المالية والمصرفية عامر شهدا، عن جوانب تقنية وقانونية معقدة تحول دون تفعيل هذا النظام حالياً.
شهدا يرى أن الأمر لا يتعدى كونه تصريحاً إعلامياً يفتقر إلى الأسس الواقعية والتنفيذية، ويكشف عن تصور مبسط لموضوع شديد التعقيد، فـ”سويفت” ليس مجرد خدمة تقنية بل جزء من منظومة مالية عالمية ترتبط بشكل مباشر بالقوانين الدولية، ومواقف الدول والمؤسسات المالية الكبرى من أي نظام مصرفي يراد دمجه فيها.
العقبات أمام التفعيل
ويبين أن تفعيل “سويفت” في سوريا حالياً غير ممكن تقنياً أو قانونياً، إلا في حال صدور كتاب رسمي من وزارة الخزانة الأميركية إلى إدارة منظمة “سويفت” لطلب إعادة تنشيط الكود السوري، وهو أمر مرتبط بالعقوبات الأميركية والأوروبية التي لا تزال سارية، خصوصاً تلك المفروضة على المصرف التجاري السوري وعدد من شركات الصرافة السورية.
كما يشير إلى أن “سويفت” لا يُفعل بكبسة زر، ولا يُدار بمنطق الأجهزة المنزلية، بل يتطلب توافقاً دولياً، واستجابة من البنوك المراسلة حول العالم، وهي لن تتعامل مع سوريا ما لم ترفع العقوبات وتُعيد تقييم تصنيفها الائتماني السيادي.
في حال نجحت سوريا في العودة إلى نظام “سويفت”- بحسب الخبير شهدا- فإن ذلك سينعكس إيجاباً على حركة الأموال والتحويلات، وسيُسهم في خفض تكاليف الاستيراد والتعاملات التجارية الخارجية، كما سيلغي دور شركات الصرافة التي أصبحت بمثابة البديل غير الرسمي في ظل الحصار المصرفي.
لكن كل هذا يبقى مشروطاً بإعادة صياغة الاتفاقيات مع البنوك المراسلة في الخارج، وتوفير بيئة مصرفية شفافة وآمنة، وهو أمر يعتبره شهدا بعيد المنال في الوقت الحالي، وفقاً للخبير المالي والمصرفي.
أزمة التمويل والاستثمار
من جهة أخرى، يؤكد شهدا أن النظام المصرفي السوري يعاني من تراجع كبير في القروض الإنتاجية، مما يُضعف قدرته على تمويل التجارة والاستثمار، ويربط ذلك بتدهور التصنيف الائتماني لسوريا، والذي يمنع البنوك الأجنبية من تقديم خطوط ائتمان أو تسهيلات مالية للمصارف السورية.
ويشير إلى أن المصارف المحلية حالياً غير قادرة على لعب دور تمويلي فعال، ما يجعل تحفيز النشاط الاقتصادي الداخلي رهناً بتدخل حكومي مباشر، أو بتحسين بيئة الاستثمار، وخلق ثقة مالية تعيد فتح أبواب التمويل الخارجي.
ويرى الخبير الاقتصادي أن المشكلة لا تكمن فقط في غياب الأدوات، بل في غياب الكوادر المؤهلة لإدارة الملفات المصرفية الحساسة، ويوجه نصيحة مباشرة لحاكم مصرف سوريا المركزي بضرورة الاستعانة بخبراء يحملون شهادات أكاديمية عالية وتدريباً مصرفياً متخصصاً، وخصوصاً أولئك الذين تخرجوا من الأكاديمية المصرفية في فرانكفورت بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، والبالغ عددهم 19 خبيراً.
ويحذر من استمرار إدارة المصرف المركزي بمنهجية غير مؤسسية، مؤكداً أن السياسة النقدية لا تُدار من خلال تجارب محلية أو قرارات فردية، بل عبر مجلس نقد وتسليف، وهيكل إداري مهني قادر على التعامل مع المؤسسات الدولية بثقة واحتراف.
ضرورة اقتصادية
من جهته، اعتبر الخبير في الشؤون الاقتصادية جورج خزام في منشور نشره على صفحته الشخصية على “فيس بوك”، أن ربط المصارف السورية، العامة والخاصة، بشبكة “سويفت” العالمية للتحويلات المالية هو خطوة ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد، خصوصاً في مرحلة إعادة الإعمار المرتقبة، لما توفره من مرونة وسرعة في حركة الأموال بالدولار من وإلى سوريا.
وأكد خزام أن هذه الخطوة، رغم ما قد تثيره من مخاوف، تحمل إيجابيات تفوق السلبيات، موضحاً أن تسهيل دخول وخروج الأموال عبر “سويفت” من شأنه أن يفتح الباب أمام استثمارات أوسع، ويعيد سوريا تدريجياً إلى الأسواق المالية الدولية، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل الحاجة لإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية.
لكن في المقابل، حذر خزام من مجموعة مخاطر قد ترافق هذه الخطوة، أبرزها احتمال عزوف الصناعيين والتجار والمواطنين عن تداول الليرة السورية، والتحول شبه الكامل إلى التعامل بالدولار، سواء عبر الإيداع في مصارف أجنبية أو الدفع الإلكتروني المباشر داخل السوق المحلي من خلال شبكة “سويفت”، وهو ما قد يؤدي إلى تزايد الطلب على الدولار، وارتفاع سعر صرفه إلى مستويات تهدد استقرار الليرة.
كما نبه إلى أن دخول البلاد في شبكة “سويفت” قد يسهل عمليات التحويل إلى الخارج من دون رقابة كافية، ويشجع على الاستثمار في مجالات غير إنتاجية، كشراء العملات الرقمية أو المضاربة على الأسهم الأجنبية، بدلاً من توجيه رؤوس الأموال نحو القطاعات الحيوية مثل الصناعة والزراعة والسياحة. واعتبر أن من بين المخاوف أيضاً زيادة الدخول على مواقع المقامرة الإلكترونية التي قد تستنزف ملايين الدولارات وتبعدها عن دورة الإنتاج المحلي.
خزام أشار إلى أن أحد أبرز الآثار المحتملة يتمثل في تراجع حجم الإيداعات بالليرة السورية والدولار داخل المصارف المحلية، ما سيضعف من قدرتها على الإقراض ويهدد استقرارها المالي، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى قطاع مصرفي قوي يكون شريكاً أساسياً في تمويل خطط التعافي.
كما حذر من تراجع الطلب على الأسهم السورية لصالح الأسهم العالمية، وهو ما قد يضر بسوق دمشق للأوراق المالية ويؤدي إلى نزوح الرساميل الوطنية نحو الخارج.
بناء الثقة بالمصارف
وبناء على هذه المعطيات، شدد خزام على أن الأولوية قبل الدخول في نظام “سويفت” يجب أن تكون لإعادة بناء الثقة بالمصارف السورية، العامة والخاصة، من خلال تطوير خدماتها، وتعزيز الشفافية، وتوفير بيئة مصرفية منافسة وقادرة على الصمود في وجه التحديات، ولاسيما أن الخدمات المصرفية المستوردة عبر “سويفت” ستكون بمستوى عالٍ من الجودة والتنوع.
وختم خزام منشوره بالقول: إن الانفتاح المالي، رغم ضرورته، يجب أن يتم بخطوات مدروسة ومتكاملة، تضمن حماية الاقتصاد الوطني وتعزز من قدرته على الانتقال من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الاستقرار والنمو.
ما هو “سويفت”؟
يُعرف نظام “سويفت” اختصاراً لـ”جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” (SWIFT: Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunication)، وهي منظمة دولية لا تهدف للربح، مقرها بلجيكا، وتدير شبكة الاتصالات المالية بين البنوك على مستوى العالم، وتعتمد هذه الشبكة على رموز تعريفية ثابتة تُعرف باسم السويفت كود، تُستخدم لتوثيق التحويلات البنكية بدقة وأمان وسرعة عالية.
النظام يُعد العمود الفقري لأي تعاملات مالية دولية، إذ تُرسل من خلاله أوامر التحويل، والتسوية المالية، والتصديق على الأوامر المصرفية، وتبادل الرسائل المالية بين البنوك.
سلاح مالي فتاك
الجدير بالذكر أن نظام التحويلات المالية العالمي “سويفت” تُستخدمه أكثر من 11,000 مؤسسة مالية في أكثر من 200 دولة حول العالم، بحسب تقارير مصرفية أنظمة “تشل الدول وتنبذها..
ما هي عقوبات سويفت؟”.
ويتفق العديد من الخبراء والاقتصاديين على أن عزل أي دولة عن نظام “سويفت” يمكن أن يؤدي إلى تداعيات اقتصادية قاسية، ويُستشهد في هذا السياق بما حدث لإيران عام 2012، عندما فُرضت عليها عقوبات من الاتحاد الأوروبي استهدفت برنامجها النووي ومصادر تمويله، فأدى ذلك إلى فقدان بنوكها القدرة على الوصول إلى “سويفت”.
ويضيف التقرير: إنه عندما هددت الدول الغربية موسكو عام 2014 بحرمانها من “سويفت”، قدّر أليكسي كودرين، وزير المالية الروسي السابق والمقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين، أن هذه الخطوة قد تُخفض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة تصل إلى 5 بالمئة سنوياً، بحسب وكالة “بلومبيرغ”.
والأهم من كل ذلك، ما هي المكاسب الاقتصادية الملموسة التي يمكن لسوريا أن تجنيها من الانضمام مجدداً إلى هذا النظام المالي العالمي؟ هل سيقتصر الأمر على تسهيل التحويلات المالية، أم سيمتد ليشمل جوانب أخرى مثل تعزيز التجارة الخارجية واستعادة الثقة في النظام المصرفي؟ بانتظار ما يحصل.