الثورة – تحقيق لجين الكنج:
في صيف امتزجت فيه حرارة الشمس بلهيب النيران، اشتعلت الحرائق بغاباتنا في منطقة الغاب بريف حماة الغربي، وفي الساحل السوري.. كانت الحرائق في موجتها الثانية اختباراً لمحبة شعبنا لأرضه وتعاونه مع فرق الإطفاء بشكل غير مسبوق.
بين ألسنة اللهب والدخان الكثيف، برزت قصص بطولة لم تُسجّل في سجلات رسمية، بل في قلوب من وقفوا بلا تردد، شباب ونساء مع فرق الدفاع الوطني مدفوعين بمحبة الأرض والانتماء للوطن، فرسموا لوحة حقيقية للتضامن الشعبي حين أصبح كل مواطن جزءاً من جبهة حماية الغابة وحماية المستقبل.
في هذا التحقيق الصحفي تسلط صحيفة الثورة الضوء على المبادرات الفردية والجماعية، وحجم الخسائر، والخطط المستقبلية لمواجهة الكوارث الطبيعية.
في قلب المبادرة
بين ألسنة اللهب التي اجتاحت الغابات، برزت قصص شجاعة وتكاتف إنساني لا يُنسى..
أحمد ديب، شاب في العشرين من عمره، كان واحداً من أولئك الذين تحركوا سريعاً ليجمعوا طاقات الشباب ويوزعوا المهام بينهم. يقول أحمد: “قسمنا العمل بيننا، كانت مهمتي جمع المساعدات، واستطعنا بفضل هذه المساعدات تأمين الطعام للشباب العاملين على الأرض، وتمويل البنزين للسيارات المشاركة، وشراء بعض المعدات مثل مضخات المياه وتعبئة الصهاريج”. ويتابع: “لم يقتصر دورنا على جمع الموارد، بل كنا نرافق فرق المتطوعين يومياً، وننطلق صباحاً محمّلين بالمواد الغذائية والمياه إلى نقاط الإطفاء، وقد واجهنا صعوبات كبيرة في تأمين المياه، فكنا نبحث عن الينابيع والآبار القريبة لتغذية المضخات، ومع ذلك، استطعنا بفضل الله تغطية قسم واسع من المناطق المنكوبة، وقد أسهمت جهودنا جنباً إلى جنب مع عناصر الدفاع المدني في إخماد الحرائق والحد من انتشارها، فروح العمل الجماعي قادرة على مواجهة أصعب الكوارث”.
بين اللاذقية ونهر البارد
غيث عيسى، (منظم الفريق عبر وسائل التواصل الاجتماعي) يروي: “بدأنا بنداء على فيسبوك، وسرعان ما انضم إلينا نحو 40 شاباً، كنا نتحرك حيثما اشتعلت النيران، لنقف جنباً إلى جنب مع الدفاع المدني”. ويتابع: “بعد أن تواصلنا عبر الأصدقاء ووسائل التواصل، بدأت تصلنا إمدادات، فجمعنا أهم الاحتياجات الأساسية، كالماء، والأدوات البسيطة، مثل الرفوش، ومواد غذائية، ولم يقتصر تحركنا على منطقة واحدة، بل كان المتطوعون يتنقلون حيثما اشتعلت النيران، لمساندة شباب القرى وفرق الإطفاء في كل مكان”. ويستمر غيث بسرد تفاصيل جهود الفريق: “في اليوم التالي، توجّهنا إلى منطقة مقامات بني هاشم- جورة ليلى، حيث كانت ألسنة اللهب تزداد ضراوة، حملنا المواد الغذائية لدعم المتطوعين على الأرض، وفي اليوم التالي انتقلنا إلى نهر البارد في الغاب لمساندة شباب القرى هناك في إخماد الحرائق، وكان هدفنا الأول حماية الأرض والوقوف إلى جانب بعضنا البعض، سواء في اللاذقية أم حماة أو أي منطقة في سوريا”.
لا نحتاج دعوة
وسط هذا المشهد، لم ينتظر الشاب محمد من الغاب ولا رفاقه دعوة رسمية، بل تحركوا بقلوبهم قبل أقدامهم.. يقول محمد: “حملنا أواني تعبئة المياه، ومجارف بسيطة وأدوات بدائية، واندفعنا نحو اللهيب، وحاولنا أن نكون مع رجال الإطفاء سدّا بوجه النار”. ويضيف: “إذا احترقت الشجرة اليوم، فسنخسر جمال بلادنا، بالإضافة إلى أن حماية الأرض مسؤولية الجميع، ورغم التعب والحروق التي أصابت البعض، إلا أنهم لم يتراجعوا، وتعاونوا مع فرق الإطفاء، ووقفوا جنباً إلى جنب مع الفلاحين وأهالي القرى، حتى بدأت النيران بالانحسار”. لم تكن مواجهة حرائق الغاب حكراً على الرجال فقط، بل كان للنساء حضور قوي وملهم في الصفوف الأمامية، فقد تركن بيوتهن، وتقدمن بخطوات ثابتة نحو الخطر، ليقفن جنباً إلى جنب مع الشباب والمتطوعين. حمل بعضهن أواني تعبئة الماء لمسافات طويلة، فيما تولت أخريات توزيع الخبز وفطائر الزيت والزعتر، والماء البارد على فرق الإطفاء والمتطوعين. وفي جبلة صاحت سيدة، وهي تمسك بخرطوم صغير: “الغابة متل أولادنا، إذا تركناها تحترق، كأننا تركنا مستقبلنا”. تعاونت الأمهات مع طالبات الجامعات، الكبيرات مع الصغيرات، حتى شكّلن سلسلة دعم إنساني، بعضهن تعرّض لاختناق نتيجة الدخان، وأخريات أصبن بجروح وحروق خفيفة، لكن لم ترجع أي منهن إلى بيتها قبل إكمال واجبها.
حجم الخسائر
مسؤول البحث والإنقاذ والإطفاء في وزارة الطوارئ، وسام زيدان، قال لصحيفة الثورة: “شهدت مناطق ريف حماة واللاذقية لمدة خمسة أيام حرائق واسعة التهمت مساحات كبيرة من الغابات والأراضي الحراجية، ووفق التقديرات الأولية، بلغت المساحات المحترقة نحو 6000 هكتار في ريف حماة، و2000 هكتار في ريف اللاذقية، جميعها مساحات حراجية كثيفة”.
ويتابع زيدان: “على الرغم من شدة الحرائق، كان لأهالي القرى دور بارز وفعال في إخماد النيران، ما يعكس روح التعاون والتضامن لدى السوريين، فقد شارك العديد من المدنيين مع رجال الإطفاء الرسميين في المدن، مستخدمين صهاريج المياه على الجرارات الزراعية، وأدوات يدوية مثل الأغصان لإطفاء الحرائق الصغيرة، إلى جانب جهود فردية مميزة”. ويرى أن هذه المبادرات المجتمعية أسهمت بشكل كبير في حماية الغابات والممتلكات، فالتعاون الشعبي يمثل دعامة أساسية لمواجهة الكوارث الطبيعية، ولولا تضافر جهود الأهالي، لما استطعنا السيطرة على الحرائق بهذه السرعة، فالدعم الشعبي ساعدنا في تغطية مساحات واسعة لم يكن بمقدورنا الوصول إليها فقط باستخدام المعدات الرسمية.
خطط مواجهة الحرائق
وعن خطط مواجهة الحرائق مستقبلاً، ومتى يبدأ تنفيذها ومتى ينتهي، قال زيدان: تسعى السلطات المحلية والمجتمع المدني إلى تعزيز الاستجابة للحرائق وحماية الغابات مستقبلاً، عبر خطط عملية تشمل:
أولاً: إنشاء خطوط نار إضافية بين الغابات للحد من انتشار الحرائق.
ثانياً: تبريد معمق للأودية والنقاط الساخنة.
ثالثاً: استخدام خراطيم إطفاء طويلة لتوصيل المياه إلى الآبار والوديان الصغيرة.
رابعاً: إنشاء نقاط رصد ومراقبة دائمة للحرائق لمواجهة أي اندلاع فوري.
خامساً: عمليات تمشيط هندسي موسع لمسارات الفرق للبحث عن مخلفات الحرب التي قد تشكل خطراً على المتطوعين.
سادساً: تعزيز مخازين المياه المتقدمة وتحديث مضخات المياه بشكل دوري.
سابعاً: تحديث دوريات مكتب الأنباء الجوية والتنبؤ بالرياح المحلية لتحسين تموضع الفرق على الأرض.
وختم بالقول: حرائق الغاب والساحل تعدّ من أخطر الكوارث البيئية التي تهدد الإنسان والطبيعة معاً، فهي لا تلتهم الأشجار فحسب، بل تدمّر التوازن البيئي، وتؤثر على التنوع الحيوي والمناخ المحلي، وتترك آثاراً اقتصادية واجتماعية جسيمة على المجتمعات القريبة منها، وإنّ مواجهة هذه الظاهرة تتطلب تعاوناً بين الأفراد والدول عبر تعزيز الوعي البيئي، وتكثيف جهود الوقاية، وتطوير وسائل التدخل السريع.
كما أنّ الاستثمار في برامج التشجير وإعادة تأهيل الغابات المحترقة يساهم في استعادة الحياة الطبيعية، فحماية الغاب والساحل ليست خياراً، بل واجب للحفاظ على مواردنا وضمان مستقبلٍ آمن للأجيال القادمة.