التوثيق الحقوقي.. سلاح في مواجهة الإفلات من العقاب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” نموذجاً.. إحصاءات مروعة تعكس حجم المأساة
أحمد نور الرسلان:
أدرك السوريون باكراً أهمية “التوثيق الحقوقي”، ورصد الانتهاكات التي مارسها نظام الأسد المخلوع بحقهم في معركتهم نحو الحرية، مستفيدين من تجارب دول أخرى شهدت حروباً وثورات وصراعات، ومن تجربة مريرة في أحداث الثمانينيات في عهد الأب “حافظ”، عندما شن حرب إبادة ضد مدينة حماة، وأخفى جرائمه، إذ لم تصدر أي توثيقات حقيقية حتى يومنا توضح بشاعة الجرائم وتعداد الضحايا والمفقودين، لكن منذ 2011، كانت المعركة ضد الأسد متكاملة (حقوقية وإعلامية وسياسية وعسكرية).
ارتكب نظام بشار الأسد الفار انتهاكات مروعة بحق الشعب السوري، وسط عجز دولي، وصمتٍ سياسي، وتراخٍ قانوني مخزٍ، لكن وسط هذا المشهد القاتم، برز سلاح فعّال- وإن كان غير صاخب- استطاع أن يقاوم النسيان والتشويه والتسييس وهو “التوثيق الحقوقي”.
في كل دولة خرجت من حرب أو صراع دموي، بقي هناك سؤال مركزي: من ارتكب الجرائم؟ وهل سيُحاسَب؟ الجواب على هذا السؤال يبدأ- ولا ينتهي- من التوثيق، لا عدالة بلا أدلة، ولا ذاكرة جماعية بلا سرد موثق للحقيقة، ولهذا، فإن التوثيق الحقوقي في الحالة السورية كان فعل مقاومة بحد ذاته.
نموذج جدير بالإشادة في مواجهة واحدة من أعقد حالات الإفلات من العقاب في القرن الحادي والعشرين، برزت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” كجهة مدنية عملت بصمت واستقلالية، على رصد وتوثيق ملايين الانتهاكات منذ عام 2011، لم تكتفِ بتعداد الضحايا أو توثيق الوقائع، بل أنشأت قاعدة بيانات دقيقة تتضمن تفاصيل عن أنماط الجرائم، وأسماء المتورطين فيها، حتى بلغت قوائمها أكثر من 16,000 اسم لمتورطين في جرائم حرب، بينهم قيادات رفيعة في النظام وأجهزته الأمنية.
لقد باتت تقارير الشبكة تُستخدم كمصدر رسمي في ملفات التحقيق الدولية، وأصبحت شهاداتها معتمدة في العديد من آليات الأمم المتحدة والمحاكم الأوروبية، هذه القيمة الحقوقية لم تأتِ من فراغ، بل من منهجية عمل صارمة وشفافة، تعتمد على الأدلة، والشهادات المباشرة، والوثائق المسربة، والصور والفيديوهات، رغم كل المخاطر والتحديات.
التوثيق عرّى النظام.. وعزله في عالم السياسة الدولية، لا يكفي أن تكون الجريمة مروّعة لتُدان، المطلوب أن تكون موثقة، وقابلة للاستخدام القانوني والدبلوماسي، هذا ما حققه التوثيق الحقوقي في سوريا، فبفضله، لم تعد انتهاكات النظام “ادعاءات”، بل تحولت إلى ملفات جرائم مثبتة، استُخدمت لرفض إعادة تأهيل النظام، وتعليق عضويته في منظمات دولية.
فـ”التوثيق الحقوقي” فضح منهجية النظام، لا فقط أفعاله، وأظهر أن القمع لم يكن رد فعل، بل سياسة ممنهجة، كما أظهر أن الاعتقال، والتعذيب، والاختفاء القسري، لم تكن تجاوزات أفراد، بل كانت قرارات مؤسسية، وهذا ما يجعل من هذه الوثائق ركيزة لأي عدالة مستقبلية، وأساساً لأي مصالحة حقيقية.
وفقاً لتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن الصراع السوري خلّف حصيلة مروعة من الانتهاكات، تشمل “مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني، بينهم 202 ألف قتلوا على يد قوات نظام الأسد المجرم، وتوثيق 181 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، بينهم 160 ألف مختفٍ قسرياً على يد النظام، بينهم 3.736 طفلاً، و8.014 سيدة، ووفاة ما لا يقل عن 45336 شخصاً تحت التعذيب، بينهم 45031 شخصاً على يد قوات النظام المخلوع.
كما سجلت الشبكة “استخدام أسلحة مدمرة على نطاق واسع، بما في ذلك إلقاء 81.916 برميلاً متفجراً، وتنفيذ 217 هجوماً بأسلحة كيميائية، و252 هجوماً بذخائر عنقودية، و51 هجوماً بأسلحة حارقة، ونزوح وتشريد نحو 13.8 مليون سوري، بينهم 6.8 ملايين نازح داخلياً وقرابة 7 ملايين لاجئ خارج البلاد.
هذه الإحصاءات المروعة- والتي تشكل الحد الأدنى لما تم توثيقه حقوقياً- تعكس حجم المأساة السورية وتؤكد على ضرورة تبنّي مسار شامل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، ويضمن عدم تكرارها، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وهو ما يتطلع إليه السوريون منذ عقود طويلة.
ما قامت به “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” هو تأريخ لسوريا التي عاشت في الظل، في السجون، في المقابر الجماعية، في جحيم البراميل المتفجرة، هذه الشهادات ليست وثائق سياسية، بل صكوك نجاة لكرامة السوريين، وأملٌ بأن الحق لا يموت بالتقادم.
التوثيق الحقوقي ليس ورقة في أرشيف، بل هو ضمير حيّ في مواجهة منظومة أرادت أن تمحو كل أثر للجريمة، ومن يعتقد أن محاسبة الجناة حلم بعيد، عليه أن يتأمل كيف أن العدالة- وإن تأخرت- لا تسقط بالتقادم، واليوم، بفضل التوثيق، لم يعد من الممكن إغلاق ملف الجرائم في سوريا من دون مواجهة الحقيقة.