الثورة – ميساء العلي:
تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق تاريخي بالغ الأهمية، تتقاطع فيه الديناميات السياسية المتجددة مع تحولات اقتصادية استراتيجية، تتصدرها جهودٌ دبلوماسية سورية هائلة تبنّتها ودعمتها دول الخليج وعلى رأسها السعودية، إضافة إلى تركيا، وقد أثمرت عن رفعٍ كاملٍ للعقوبات الأميركية والأوروبية.
هذا التحول لا يقتصر على مجرد انفراج سياسي فحسب، بل يمثل فرصة حقيقية لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بما يُمكّن سوريا من استعادة مكانتها الاقتصادية الفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة مع وجود حكومة تكنوقراط تضم كفاءات متميزة وخبرات عالمية قادرة على قيادة عملية الإصلاح والتنمية، مما يعزز الآمال في تنفيذ رؤية استراتيجية متكاملة تتبنى سياسات تنموية شاملة تعزز الإنتاج وتحفّز الاستثمار وتُحدث الأطر التشريعية، مع توجيه الموارد نحو القطاعات الحيوية ذات القيمة المضافة العالية.
مقومات طبيعية وبشرية
يقول الدكتور عامر المحمد العبد الله- اقتصادي وباحث أكاديمي: إن سوريا تتمتع بمقومات طبيعية وبشرية فريدة تشمل ثروات طبيعية متنوعة وموار بشرية مشهود لها بالكفاءة وقوى عاملة مؤهلة وموقع جيوسياسي استراتيجي يربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتُشكل هذه المقومات الأساس الراسخ لرؤية تنموية شاملة مستدامة تهدف إلى الانتقال من اقتصاد الصراع إلى اقتصاد متجدد يرتكز على النمو والتنافسية في الأسواق المحلية والدولية على حد سواء.
ويسأل الباحث من أين نبدأ.. ليجيب: لابد من توحيد الجغرافيا الاقتصادية– الركيزة الأولى للسيادة والنهضة المستهدفة فلا يمكن تصور بناء نموذج تنموي ناجح ومستدام من دون وحدة الأرض والسيطرة الكاملة على الموارد واستعادة الدولة لسيادتها على كامل الجغرافيا في المحافظات الشرقية دير الزور، الرقة، والحسكة، فهذه المحافظات الثلاث تشكّل بوابة لا غنى عنها لأي نهوض اقتصادي فعلي، فهي تختزن جُلّ الموارد الاقتصادية الوطنية فأكثر من 80 بالمئة من إنتاج النفط والغاز في البلاد، فالحصة الكبرى من محصولي القمح والقطن، الركيزتين الأساسيتين للأمن الغذائي والصناعات النسيجية، وأهم الموارد المائية ومصادر الطاقة الكهرومائية، وفي مقدمتها سد الفرات، إضافة إلى أراضٍ زراعية واسعة وثروة حيوانية ضخمة ومن دون استعادة هذه الموارد ضمن الإطار السيادي للدولة، تبقى أي خطة تنموية منقوصة ومحدودة في قدرتها على الاستمرار.
ويرى أن إعادة الإعمار تعد القاطرة التنموية لتفعيل التشابك القطاعي والتحول نحو البنية التحتية الذكية، فلا ينبغي النظر إلى إعادة الإعمار كمجرد نشاط عمراني أو تدخل ظرفي لمعالجة آثار الدمار، بل بوصفها عملية اقتصادية شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس إنتاجية ومؤسسية، وتتمثل القيمة الاقتصادية الجوهرية لهذه العملية في قدرتها على تفعيل شبكة مترابطة من التشابكات القطاعية الأمامية والخلفية، مما يجعلها بمثابة قاطرة تنموية ذات أثر مضاعف يمتد إلى مختلف القطاعات.
ويتابع كلامه بالقول: تُمثل إعادة الإعمار في سوريا لحظة مفصلية لإعادة تموضع الاقتصاد الوطني، ليس فقط عبر استعادة البنى التحتية، بل من خلال تفعيل التشابكات القطاعية، وتعزيز القدرة التنافسية، والتحول نحو اقتصاد مؤسسي منتج، ويتطلب ذلك تعاملاً استراتيجياً يتجاوز البعد الإنشائي إلى هندسة اقتصادية كلية تتضمن سياسات استثمار، تمويل، رقابة، وتخطيط طويل الأمد، فنجاح هذه العملية لا يقاس بسرعة تنفيذ المشاريع فقط، بل بقدرتها على إعادة بناء منظومة اقتصادية مستدامة ومتعددة المحركات، تمكّن سوريا من الدخول الفعّال في سلاسل القيمة الإقليمية المحلية والعالمية.
وحول تعبئة مدخرات المغتربين كخيار استراتيجي للتمويل التنموي الذاتي يقول: تُعد مدخرات المغتربين السوريين مورداً مالياً غير مستغل بشكل كافٍ في بنية التمويل الوطني، وتشير التقديرات إلى أنها تُقدّر بالمليارات من الدولارات، وبالتالي يُمكن اعتبار تعبئة هذه المدخرات خياراً مستداماً لتأمين تمويل داخلي للنمو والاستثمار، شريطة وجود أدوات مؤسسية موثوقة وآمنة وأعتقد أن ثقافة وفلسفة نظام الحكم الجديد تقوم على ذلك.
وأضاف: “يمثّل رفع العقوبات نافذة لإعادة ربط الاقتصاد السوري بمنظومة التمويل والتجارة العالمية، وهي خطوة ضرورية لتحفيز النمو وجذب الاستثمار المباشر، وتشير الأنباء المتداولة اليوم إلى بدء إنهاء العزلة المالية المفروضة منذ سنوات وتشمل إعادة الارتباط بنظام “سويفت” الدولي ما يتيح إجراء التحويلات والمراسلات المصرفية بكفاءة ويعيد بناء الثقة مع المصارف العالمية، وإصلاح وتوسيع البنية المصرفية المحلية لتتكامل مع الشبكات المصرفية الإقليمية والدولية، من خلال تحديث الأطر التشريعية والرقابية وتطبيق معايير الامتثال المالي مثل (FATF) وBasel III
لا يكتمل أي تحول اقتصادي جذري دون خارطة طريق واضحة ترتكز على إصلاحات بنيوية مدروسة، تتجاوز المعالجات الظرفية نحو بناء منظومة اقتصادية حديثة وشاملة، وفي السياق السوري، الذي يتطلب تحوّلاً مركّباً على المستويات المؤسسية، الإنتاجية، والاجتماعية، تبرز حزمة من التدخلات الاستراتيجية التي تشكل البنية التحتية لهذا “التحول البنيوي”، الذي يمكن وصفه رمزياً بـ”مشروع مارشال سوري” من خلال إنشاء صندوق سيادي وطني لإعادة الإعمار يتمتع باستقلالية مالية وإدارية، ويخضع لرقابة مؤسسية صارمة.
هذا الصندوق يمثل أداة استراتيجية لتوجيه الفوائض، والمنح، والتمويل الدولي نحو أولويات التنمية طويلة الأمد، بعيداً عن الضغوطات السياسية والبيروقراطية واستقطاب الكفاءات والخبرات السورية في الخارج عبر حوافز مالية، وامتيازات مؤسسية، ومسارات مهنية مرنة، بما يضمن نقل المعرفة والخبرات وتوطين رأس المال البشري عالي المهارة، إضافة إلى رقمنة الدولة والتحول إلى حكومة إلكترونية كوسيلة للقضاء على الفساد الإداري، وتسريع تقديم الخدمات، وتعزيز الشفافية والمساءلة عبر أنظمة إلكترونية متكاملة في مجالات الجباية، التراخيص، والمشتريات العامة وإطلاق مناطق اقتصادية خاصة متعددة الوظائف تعتمد نماذج الحوكمة الحديثة، وتُدار كشركات قابضة ذات طابع استثماري، مما يوفر بيئة اختبارية لسياسات السوق ويعزز جاذبية سوريا كمركز لوجستي إقليمي، ناهيك إعادة هيكلة منظومة التعليم التقني والمهني لربط مخرجاته بسوق العمل الجديد.