الثورة – أحمد صلال – باريس:
حامد، شاب لاجئ من أصل سوري، يسافر ذهاباً وإياباً بين ستراسبورغ وألمانيا، باحثاً عن سوري آخر يُعتقد أنه في أوروبا، وفي جيبه صورة قديمة فقط كدليل، يحاول العثور على الرجل المُسمى “سامي” ضابط المخابرات، الذي قام بتعذيبه في معتقله في سوريا.
الرجل ابن عمه، كما يشرح أحياناً، وصديق طفولة أحياناً أخرى، حامد يكذب كما يتنفس.. ودوافعه غامضة كغموض صورته.. يبدو أن هدفه التجول بهوية أخرى، هل يمكن أن يكون سامي أيضاً لاجئاً هرب من نظام بشار الأسد المخلوع، أم على العكس، أحد أتباعه؟.
منذ ذلك الحين، تبدأ الأسئلة بالتدفق في ذهن المشاهد، من هو حامد؟ لماذا هذه المطاردة العشوائية، بلا موارد كبيرة، ولكن بعزيمة؟ ما الذي يخفيه عن الجميع، سواء عن المسؤولين عن قضيته كمهاجر، أم عن والدته العالقة في مخيم للاجئين في لبنان؟ هل هو قاتل مأجور أم مُصَوِّب للخطأ؟.
ستزداد الأسئلة باستمرار على مدار القصة المشوقة التي يرويها المخرج جوناثان ميليت، الذي يحرص على كشف القضايا المطروحة شيئاً فشيئاً.
يُدخلنا فيلم “الأشباح” في قلب الحدث: العمل الميداني لـ”عملاء” المخابرات، هنا، أولئك الذين يعملون- خارج أي إطار قانوني- لمصلحة “الخلايا السرية” التي انتشرت في أنحاء أوروبا بالتزامن مع انتشار الشتات السوري.
إذاً، كانت قصة تجسس، فهي قبل كل شيء فيلم مضاد للتجسس: لا أجهزة ولا انفجارات هوليوودية.
“ميليت”.. وهو رحالة ومخرج أفلام وثائقية بالتدريب (يُخرج أول فيلم روائي طويل له هنا)، مهتم بالواقع الملموس: جمع المعلومات الهشة، والشك الدائم، والمراقبة الدقيقة، والخوف المُريع في المعدة، وأنفاس المرء في أنفه.. يتم لعب لعبة الشطرنج الأعمى بين الصياد والهارب، وأن أدنى خطأ يمكن أن يكون قاتلاً.
لكن إذا كان “ميليت” يتناول الواقع الملموس، و”المُجرّب” والوثائقي، فهو في المقام الأول يتناول الجانب الحسي، على الرغم من حميمية فيلم “الأشباح” (Les fantômes)، إلا أنه فيلم “مثير”، يُثير الإعجاب بإيقاعه (المُحبط، مع أنه في النهاية لا يحدث شيء مُذهل) وبأسلوبه “الانطباعي”.
يستطيع المُشاهد أن يشعر- وهو أمر نادر في السينما- بكل ما يجري في رأس البطل وجسده، جميع حواسه مُتيقظة، وحواسنا أيضاً، لأن حامد، لا يملك صورةً فقط تُرشده، بل لديه أنفه أيضاً، حاسة الشّم لديه وذاكرته الشميّة.
الانغماس في العمل كامل، يُعطينا الإنتاج شعوراً حقيقاً أننا في الميدان، إلى جانب العميل، ولكن أيضاً في أرض مجهولة، حيث يتعلّم حامد، الذي تُرك لوحدته، أسرار المهنة في العمل.
يشعر المشاهد، الذي يكون دائماً على حافة السكّين، بالقلق- ويزداد الأمر سوءاً لأن 80 بالمئة من الحوار بلغة أجنبية (الإنجليزية والعربية).
مع أن حامد أطلق على هدفه لقب “الشيطان”، إلا أن سامي ليس سوى “العدو” المفترض، إنه مجرد لقيط “افتراضي”، وجرائمه مفترضة، يُغذّي خطرُ خطأ الهويةِ بذكاءٍ توترَ القصة، لأنَّ تقليلَ هذا الخطرِ يتطلبُ الاقترابَ الشديدَ من الهدف.
في دور حامد، قدّم آدم بيسا أداءً جسدياً مكثّفاً بشكل خاص، مليئاً بالتوتر والغضب المكبوت.
أشباح الماضي
“أشباح” العنوان، التي تُشير مباشرةً إلى الرجلين المراوغين اللذين يعبران الحدود “متخفيين”، تُثير بلا شك أشباح الماضي: تلك الوفيات والندوب التي ظننا أنّا تركناها خلفنا، لكنها لا تزال تُذكرنا.
نشعر أن صورة الشفافية هذه تعكس أيضاً انفصال حامد عاطفياً عن الواقع، أكاذيبه المستمرّة “أسطورته” تمنعه من تكوين روابط عاطفيّة سليمة مع من حوله.
يُبعد عنه القلائل – بمن فيهم يارا اللطيفة – الذين يمكنهم مساعدته في الحفاظ على تماسكه مع “الواقع”.
إن الإدراك التعاطفي يسمح لنا بالشعور بكل المعاناة والخطر الذي يسببه هذا البعد.
أسئلة أخلاقية
ولكن ما هو هدف هذا العمل “الجاسوس”؟ هل يُجرّد حامد نفسه من إنسانيته أمام أعيننا، وهو غارقٌ في مهمته بشكلٍ متزايد وخطير؟، مع تسارع لعبة الخداع بين حامد وسامي (الممثل توفيق برهوم)، يُشكّك الفيلم في شرعية نهجٍ يتجاوز مبدأ العدالة الأهليّة.
لكن بدلاً من فرض أي بوصلة أخلاقيّة، يترك جوناثان ميليت الجميع ليُصدروا أحكامهم الخاصة.