الثورة – علا محمد:
في تلك البقعة الخضراء التي غطاها الرماد، وابتلعت قراها أصوات الطائرات ورائحة البارود، تنبت الزهور من بين الركام وبين كل زهرة، هناك قصة لطفل أو طفلة قرروا ألا ينكسروا، ألا يكونوا فقط أرقاماً في نشرات الأخبار، بل شعلةً تضيء ظلام الحرب.
في إدلب، وتحديداً في مدينة خان شيخون المدينة المرادفة للألم تكتب الطفلة نور حشاش الكبب حكاية من نور، لا تحمل سلاحاً، ولا تعرف معنى القتال، لكنها تقرأ.. تقرأ كما لو أن الكتاب هو النجاة، تقرأ كما لو أن الحرف وطن، والسطر بيت، والصفحة حضن لا تصيبه القنابل.
نقرأ على ضوء شمعة
“نحن لم نكن نسمع أصوات المعلمين، بل كنا نسمع أصوات البراميل”، بهذه الكلمات بدأت نور تروي حكايتها لصحيفة الثورة، لم تكن الألعاب والضحكات تملأ أيامهم مثلما يعيش أقرانهم حول العالم، بل كانت الكتب تُقرأ على ضوء شمعة، والليل يُقضى على أنغام تحليق الطائرات، والصباح يبدأ على دويّ البراميل المتفجرة.
وأوضحت نور أن بدايتها مع المطالعة كانت في عمر التاسعة، عندما قرأت كتاب “مم و زين”، لم يكن كتاباً عادياً بالنسبة لها، بل كان باباً جديداً لفهم العالم والناس والحياة، تعلّمت من خلاله أن الجزاء من جنس العمل، وأن من يؤذي يُؤذى، وأن الإقراض لا يتم من دون مواثيق، وأن إيذاء الآخرين مرفوض تماماً.
والدة نور كانت أول من وجهها نحو الكتاب، ففي المنزل مكتبة كبيرة، وأفراد العائلة جميعاً يحبون القراءة، تلك البيئة الصغيرة التي تضم الكتب والأمل كانت الحاضنة الأولى لحب نور للقراءة، ورغم الحرب، لم تكن المطالعة تؤثر سلباً على دراستها، بل كانت تمارسها في أوقات الفراغ أو قبل النوم، حين يكون العالم قد هدأ قليلاً من حولها، أو على الأقل عندما يتوقف القصف مؤقتاً.
لكن إدلب لم تتوقف عن النزيف، القصف لم يكن حدثاً طارئاً، بل جزءاً من الروتين اليومي، ومع ذلك، كان الكتاب هو الوسيلة الوحيدة لتلوين أيام نور.. ومن بين كل تلك اللحظات المرعبة، كتبت نور قصيدة تفيض بالألم:
كتمت تحت ركام البيت صوتي.. دوى صوت مرعب في حارتنا
كانت طائرات الغدر والموت تفرغ حقدها على أطلال بيوتنا الخاوية..
وفاضت روح سلمى إلى ربها في جنة عالية..
وأكثر ما أدهشني مئذنة مسجد الحي.. تسمو بقامتها الشاكية
سممونا بغاز السارين، وأمطروا علينا نار الجحيم في الشتاء..
أرادونا موتى وأردنا البقاء..
نهضنا من جديد، نضمد الجراح
فأورق الزيتون وابتلج الصباح
كانت القصيدة صرخة مكتومة لروح فقدت أصدقاءها وألعابها وأمانها، لكنها تمسكت بحلمها، ووجدت في الكتاب والكتابة شيئاً من التعويض والشفاء.
تقول نور: إنها حزنت كثيراً على من فقدتهم، لكن الله عوضها بعائلة تمنحها الثقة وتساندها، وشاركت بعدها في “تحدي القراءة العربي” لتقول للعالم: “لسنا أطفال مخيمات فقط، بل نحن أطفال علم ومعرفة، نحب التعلم والقراءة ولا نحب الحروب”.
القراءة بالنسبة لها لم تكن هروباً، بل أملاً، كانت وسيلتها للتفاؤل، ومن خلالها اكتسبت معلومات وأفكاراً تساعدها في بناء مستقبلها، وبينما كانت المدن تنهار، كانت نور تُشيّد داخلها مدناً من كلمات.
نحو الـ50 كتاباً
ولم يكن الطريق سهلاً، فقد واجهت نور صعوبات كثيرة في تحدي القراءة، أبرزها ضيق الوقت وعدم توفر الكتب في بلدتهم الصغيرة.
تقول نور: “واجهت الكثير من المصاعب، أبرزها ضيق الوقت المحدد الذي منحونا إياه، فلم يكن كافياً لتلخيص 50 كتاباً، وحدها أمي كانت تذهب إلى المدينة وتحضر لي الكتب من المكتبات، وقرأت أيضاً كتباً الكترونية من خلال الانترنت”.
جوازات التحدي التي حملتها نور تضمنت كتباً متنوعة، منها الديني والعلمي والخيالي والسير الذاتية، مما أتاح لها أن تُكوّن رؤية واسعة وثقافة متعددة الأبعاد، رغم أنها لم تغادر حدود الحرب.
لحظة لن تُنسى
من أجمل المواقف التي تتذكرها نور.. يوم إعلان نتيجة المسابقة، كانت تجلس تقرأ كتاب “الهنود الحمر”، بعد أن أدّت امتحان التحدي على مستوى المحافظة، عندما دخلت أمها فجأة وهي تصرخ فرحاً: “نجحتي.. نجحتي”.. لم تستوعب نور الأمر في البداية، لكن حين فهمت أنها فازت، غمرها الذهول والحب والشوق دفعة واحدة، كانت لحظة فرح حقيقية وسط زمن القهر.
وصية من قلب الركام
نور تؤمن أن الأطفال الآخرين تأثروا بشدة بالظروف الأمنية، فالكثير من أصدقائها كانوا يخافون من القصف، من صوت الطائرات، من احتمالية سقوط البيت عليهم، هذا الخوف أثّر على تركيزهم ودراستهم وحتى على شغفهم بالقراءة، لذلك، تُوجه نور رسالة لكل أطفال إدلب، “اقرؤوا.. لأن القراءة تغذي العقل، القراءة كنز المعرفة، من تسلح بها ساد وغنم وانتصر، ومن أغفلها هان وضعف وافتقر”، وتختمها بقول الله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق”.
حلم نور ليس بسيطاً، هي تحلم أن تصعد إلى المنصة التي يُتوّج عليها أفضل شاعر وكاتب، وهي تؤمن أنها ستصل، وستستمر بكل إصرار وعزيمة لتحقيق هذه الغاية، وقد بدأت بالفعل، فقد كتبت قصة خيالية قصيرة بعنوان: “حقل الكتب”، حصلت عنها على شهادة دولية، قصة تروي فيها عالماً تتفتح فيه الكتب كما تتفتح الأزهار، رغم أن الأرض التي كُتبت عليها مفخخة بالدموع.
إلا أن نور اختارت أن تبني شيئاً لا تقدر عليه الطائرات، عقلٌ يعرف، وقلبٌ يحلم.