الثورة – إيمان زرزور :
الإختفاء القسري جريمة صامتة لا تُصدر صوتًا، لكنها تترك فجوة عميقة في كل بيت، وندبة لا تبرأ في قلب كل أم، في زوايا المنازل، خلف الصور القديمة، وعلى أبواب لم تُغلق جيدًا منذ يوم الغياب، تعيش أمهات المخفيين قسراً في ظلمات الانتظار، يحملن أملًا لا يموت، يطرّقن الأبواب عامًا بعد عام، وينثرن أسماء أبنائهن في ذاكرة الوطن.
لفقدان أحد الوالدين أو كلاهما أثر كبير على الأطفال في ظل النزاعات والحروب، حيث يحمل الأبناء وجع الغياب ويعانقون مشاعر متناقضة من فقد، شك، وأمل. رغم مرور سنوات أو عقود على اختفاء مفقوديهم، يتمسك أولياء الأمور والأبناء بخيط الأمل الأخير، ينتظرون خبرًا أو صورة أو معلومة تخلصهم من الألم.
هذا الأمل ليس ضعفًا، بل هو وسيلة للبقاء، يمنحهم القوة للمطالبة بالحق والعدالة، ويدفع كثيرًا منهم للانخراط في حملات حقوقية ومساعي بحث حثيثة عن المفقودين. في سوريا، حجم الوجع كبير، والفقد أعمق من قدرة الجبال على تحمّلها، لكن السوريين يحتملونه عامًا بعد عام، منتظرين بشوق فتح أبواب الأمل. ومع فتح السجون بعد سقوط النظام، واستمرار غياب اللقاء، تظل الأمهات متشبثات بالأمل، حتى ولو كان اللقاء بعد الموت.
الانتظار الطويل دون استجابة يؤدي إلى انهيار نفسي مزمن، يحتاج إلى دعم حقيقي من المجتمع والحكومة. لا موت معلن، ولا حياة واضحة، تعيش أسر المخفيين في حالة رمادية، لا يمكنها إعلان الحداد ولا احتفال العودة، فتغرق في التشتت والحرمان. الألم النفسي مزمن، لا سيما للأمهات اللواتي يعشن فقدًا مستمرًا بلا نهاية، وغالبًا ما يصبن بالاكتئاب أو اضطرابات ما بعد الصدمة. ورغم مرور السنين، تظل الأم أول من ينتظر وآخر من يستسلم.
هذه الأم ليست مجرد والدة لمخفي قسري، بل أصبحت صوت قضية، وذاكرة حيّة، وراية تذكّر العالم بأن خلف كل اسم وجهًا، وخلف كل ملف حياة تستحق أن تُروى. الأمل لديها ليس عاطفة فقط، بل خيار مقاومة. حتى بعد عشرين عامًا، ترفض كثير منهن قبول شهادة وفاة رمزية، لأنهن يدركن أن الأمل لا يلغي الألم لكنه يجعله أكثر احتمالًا.
الأمل في عودة المخفيين ليس وهماً، بل أداة ضغط تستمر من خلالها المطالبة بالحقيقة، وجمع الأدلة، وفتح الملفات المغلقة، وتذكير المجتمع الدولي بمسؤوليته تجاه هذه القضية. المخفيون قسريًا ليسوا أرقامًا في تقارير حقوقية، بل حكايات فقد معلّق وبحث لا ينتهي، وأمهات لم يهدأن يومًا. في قلوبهن ألف وجع، لكن بين يديهن صورة قديمة لا يغادرها الأمل بأنها ستعود يومًا ما وجهًا حيًا. والانتصار الحقيقي لا يكون بالعطف المؤقت، بل بالحقيقة والعدالة وكشف مصير كل من غاب في الظلام.
يواجه المجتمع السوري اليوم إرثاً ثقيلاً من الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت على مدار 14 عاماً من النزاع المسلح. وفقاً لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد وُثّق مقتل ما لا يقل عن 231 ألف مدني، من بينهم 202 ألف قُتلوا على يد قوات نظام الأسد. كما تم توثيق 157 ألف حالة إخفاء قسري.
وفق الشبكة الحقوقية، تتجاوز هذه الأرقام المجردة حدود الإحصاءات لتشكل جروحاً عميقة في الوجدان الجمعي السوري. فالأثر النفسي والاجتماعي لهذه الانتهاكات يمتد بشكل متشعب ومعقد في أنسجة المجتمع بأكمله. لقد شهدنا انهياراً حاداً في منظومة القيم الاجتماعية، وتفككاً بنيوياً في النسيج المجتمعي التقليدي، وتدميراً شاملاً لشبكات الأمان والتضامن المحلية.