الثورة – تحقيق سعاد زاهر:
“لو أنني أعرف أن منع السفر لا يزال ساري المفعول لما فكرت بالقدوم”، تقول سوسن مع نهاية زيارتها القصيرة إلى بلدها سوريا بعد غياب (14) عاماً، توفيت خلالها والدتها، ولم تتمكن من رؤيتها، وها هي تدفع ثمناً من نوع آخر، فقد اكتشفت أن المؤسسة التي تعمل فيها قد راكمت عليها غرامات مالية، رغم الدعوى القضائية التي رفعتها قبل نحو سبع سنوات، إلا أنها لا تزال تعاني، وصدر بحقها قراران متناقضان؛ الأول صرف من الخدمة مع مجموعة من العاملين في الدولة من مؤسسات مختلفة، والثاني حكم اعتبرها “بحكم المستقيلة”.
بين نارين
بينما تاه أمل سوسن في خيبة عميقة، وغادرت وهي تقول بوجع: “وداعاً سوريا”، لا تزال الزميلة “هند بوظو” تتردد في العودة إلى بلدها بعد غياب تجاوز التسع سنوات.
هند التي طالما عملنا معها في صحيفة الثورة، لم يكن يخفى على أحد موقفها حتى قبل عام 2011، كانت تصنف كمعارضة للنظام، اضطرت عام 2015 لتقديم إجازة إدارية لتتمكن من مرافقة ابنتها إلى تركيا، من أجل لمّ الشمل، وكان من المقرر أن تعود بعد انتهاء الإجازة، ولكن بسبب تأخر لمّ الشمل، اضطرت إلى إرسال شقيقها كي يمدد إجازتها- حينها علمت أنهم أخفوا الإجازة- كما أخبرتها حينها مديرة الشؤون الإدارية في صحيفة الثورة.
الأمر الآخر أن إجازتها اختفت، وأخبرت المديرة ذاتها شقيقها سراً أنه صدر بحقها قرار باعتبارها بحكم المستقيلة، وسوف تحاكم بجرم ترك العمل، وهنا لم يعد بإمكانها الرجوع، وقرار طردها من العمل صدر مباشرة، بعد شهر تقريباً، ولم يعد بإمكانها تقديم إجازة كما حكم عليها بالسجن، ما جعلها تقرر البقاء في تركيا.
اضطررت للهرب
تلتقي حالة زميلنا الإعلامي مصطفى علوش مع حالة هند في العديد من النقاط، علوش عمل في صحيفة الحرية (تشرين سابقاً) ثم انضم إلى صحيفة الثورة لفترة أقل من عامين، يقول: اضطررت للهرب من البلاد عام 2015 بعد أن أصبحت الحياة صعبة جداً، كنت أشعر أنني ملاحق بعد نشري مجموعة من المقالات خلال الأعوام ( 2013- 2014- 2015) لذلك غادرت البلد نتيجة الخوف من الاعتقال والتوقيف.
كان الاستقطاب لمصلحة النظام قوياً جداً، يقول علوش، وكان الصمت يعني عدم الإدلاء بموقف مؤيد للنظام المخلوع، خاصة أن العمل في الإعلام مسألة صعبة في بلد مثل سوريا، ولاسيما أن أسماءنا معروفة ومواقفنا واضحة، فقررت الهرب.
بالطبع حالة “سوسن، وهند، ومصطفى” ليست سوى أمثلة عن آلاف المواطنين العاملين الذين اختاروا ألا يقفوا مع بطش النظام البائد وظلمه، من دون أن يتوقعوا أن الظلم سيطولهم بعد سقوطه حين يقررون العودة إلى بلد لطالما اشتاقوا لِلُقياه حُرّاً بعد اندحار النظام البائد، الذي فرق شملهم وشتتهم في بقاع الأرض.
حالات أخرى، حاولتُ أن أحصل على تصريحات منهم باعتبارهم كانوا مطلوبين للأجهزة الأمنية قبل خروجهم من سوريا بداية الثورة، لكنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح، كما رفض المسؤولون التعامل معي لدى مراجعة العديد من المؤسسات لإتمام مهمتي الصحفية، وبعضهم، ربما اعتبر الإدلاء بتصريح حول هذا الموضوع لا يزال مبكراً لاعتبارات لم أفهمها!
تعددت الأسباب والهروب واحد
هي مشكلة قائمة، يتعرض لها كل من يفكر بزيارة سوريا، من العاملين الذين يمكن تصنيفهم وفق محاور ثلاثة هي: أولاً: موظفون هربوا لأنهم كانوا مطلوبين أمنياً.
ثانياً: قسم آخر هرب لأنهم لا يريدون العمل ضمن مؤسسات النظام المخلوع.
ثالثاً: القسم الأخير هرب من جحيم الحرب، بكل الأحوال هم هربوا للحفاظ على حياتهم، ولأن الأوضاع كانت كارثية، فهل يحسن أن يخضعوا الآن لقوانين النظام البائد، وهل يجوز أن تتم محاسبتهم وفق تلك القوانين؟.
تقول الإعلامية هند بوظو: “توقعنا أن نتحرر من قوانينه، بالطبع أحلم بتلك اللحظة التي أعود فيها إلى سوريا، تسع سنوات وأنا أشتغل مع المعارضة في تركيا، وأنتظر لحظة التحرير الكبرى، ولكن هل من المعقول أن أعاقب، وعلى ماذا؟.. على موقفي، على انشقاقي عن النظام المخلوع، وأنا منذ 30 عاماً مسجلة لدى النظام أنني معارضة؟!.
أراها عقوبة مالية وأخلاقية وإنسانية بحقنا تجعلنا نتردد بالعودة، خاصة أن لدينا صعوبات كبيرة مثل الكثير من السوريين الموجودين في تركيا، حيث ظروفنا المادية والحياتية شاقة.
تتابع بوظو: هذا الأمر يجعلني أعمل حسابات كثيرة، كيف أنزل إلى بلدي وأنا معاقبة، غرامات لمدة تسع سنوات، كيف سأسددها، وأنا بلا عمل أعيش على المساعدات التي تأتيني من أولادي، بالكاد أسدد بها أساسيات الحياة من إيجار منزل وطعام، نحن نعيش ضمن ظرف لا يوصف.
وتضيف باستغراب وألم: دول لها ديون على النظام المخلوع تمت مناقشة إسقاطها، فكيف لا تسقط الغرامات الكيدية التي وضعها النظام المخلوع على الموظفين الهاربين من بطشه.. هل قراراته ملزمة لمن هرب من الموت؟ زوجي اعتقل وسجن عاماً كاملاً، وتعرض للملاحقة، أيضاً الحال مشابه مع ابني الذي دفعت الملايين لحمايته، نحن هربنا من سوريا كنّا قاب قوسين أو أدنى من الاعتقال، خرجنا لأننا لا نريد الموت، خرجنا لبناء دولة.
الآن بعد سقوط النظام البائد، يتابع مصطفى علوش، أفكر بزيارة بلدي، لكنني متردد بعد متابعتي لكل ما ينشر حول العقبات الإدارية والقانونية والمالية للعائدين، خاصة الموظفين منهم.
من المؤكد قضايا مثل التوقيف الأمني والاعتقال سقطت، لكن هناك قضايا إدارية يمكن أن تشكل عقبة كبيرة.
كنت موظفاً مثبتاً في مؤسسة الوحدة، وهربت من دون تقديم استقالة، وهناك الآلاف من العاملين الذين هربوا وتركوا عملهم، اليوم عند العودة تواجهنا مشكلات قانونية وإدارية وغرامات مالية!.
منع سفر
أتذكر أنني طيلة سنوات كثيرة قبل عام 2015 كنت أغادر إلى أي بلد من دون حاجة لتأشيرة، لأنني لا أضع تلك الكلمة التي باتت تشلّنا تماماً عند ذكر مغادرة البلاد “موظف”، ولا يوجد اسمي عبر المنافذ الحدودية، لكن المفاجأة التي صدمتني ولا تزال آثارها حتى اليوم، حين قررت المغادرة في فجر صيف عام 2015، حينها علقت على الحدود السورية- اللبنانية في الجديدة، ولم يسمح لي بالمغادرة لأنني لا أملك موافقة سفر، في الوقت الذي سمح فيه لجميع الركاب الذين كانوا معي بالمغادرة، وهكذا علقت، كما علّق غيري، في دوامة موافقات السفر، حينها كانت تعطى بناءً على معطيات عديدة.
كثيرون لم يكونوا يملكونها في ذلك الوقت، وتحاك التهم أينما حللنا، كانت تلك المرحلة تتميز بمغادرة الكثير من الموظفين غير آبهين بأي شيء، فتم استبقا من لم يتمكن من المغادرة سريعاً بهذه الطريقة القسرية.
حول منع السفر، يقول المحامي أديب عاصي لصحيفة الثورة: وهو الذي استلم قضايا كثيرة تتعلق بالعاملين الذي تركوا وظائفهم: تم وضع أسماء الموظفين في سجل العاملين في الدولة، الأمر الذي يجعله يحتاج إلى موافقة سفر كي يغادر سوريا، تتم موافقة السفر عن طريق التقدم بطلب إلى إدارته، وهي التي تقدّر إن كان بإمكانه السفر أم لا، وفي حال سافر الموظف من دون موافقة إدارته يعتبر أنه سافر بطريقة غير شرعية، كلّ من انشق عن النظام المخلوع غادر بطريقة غير شرعية، وبالتالي عندما يعود لا يجد دخولاً وخروجاً على الحدود، الأمر الذي يجعله يحتاج إلى تسوية وضعه.
وعن الحالات التي تعامل معها من خلال الدعاوي يقول المحامي عاصي: شملت من ترك عمله وصدر بحقه قرار أنه بحكم المستقيل، عند عودته يتوجب عليه مراجعة الإدارة لمعرفة ما هي الذمم المالية المترتبة عليه، ولهذه الذمم أشكال متعددة.. رواتب، عهدة لوازم مكتبية، مصاريف إيفاد- إن كان موفداً لمصلحة الدولة.
الموضوع كله يتعلق بأنه يوجد حقوق للإدارة، وعلى هذا الأساس وضع منع السفر، فيتم وضع اسمه على الحدود لإخباره أن لديه منع سفر ويفترض أن يراجع الإدارة، لتسوية وضعه.
ويتابع عاصي: قد تتساهل الهجرة والجوازات فتعطي موافقة سفر لمرة واحدة، لكن عند العودة يفترض أن يسوي وضعه، وإلاّ يمنع من السفر.
في مجلس قضايا الدولة بعد التحرير بقيت القوانين السابقة نافذة، لذلك توجهت صحيفة الثورة إلى الجهة التي تخاصم الموظف، وهي مجلس قضايا الدولة للإجابة على مجمل التساؤلات.
بداية كان لنا تساؤل عن علاقة مجلس قضايا الدولة بقضايا العاملين الذين هربوا من النظام، رئيس قسم القضاء الإداري في مجلس قضايا الدولة أسامة سلمون يقول: إدارة قضايا الدولة هي وكيل بالخصومة عن مؤسسات وشركات الدولة بما يرفع منها أو عليها من دعاوى، لتتم المرافعة عنها أمام القضاء.
فيما يتعلق بالموظفين فهم يخضعون للقانون رقم (50) لعام (2004) وقسم آخر يخضع للقانون رقم (135) لعام 1945، حسب طبيعة عمل كل منهم.
القوانين السابقة نافذة
وفيما يتعلق بسؤال حول محاسبة العائدين من الموظفين على نفس القوانين السابقة يقول سلمون: بعد السقوط بقيت القوانين السابقة هي النافذة، بينما يتم تشكيل أطر تشريعية جديدة والنظر في تعديل القوانين أو إلغائها، وإعداد مشاريع قوانين جديدة ليتم إقرارها.
قسم كبير من قرارات الصرف من الخدمة صدرت لأسباب أمنية، وكل قرارات الصرف من الخدمة تصدر من رئاسة مجلس الوزراء بموجب لجنة مشكلة من المجلس وتكون قراراتها سرية.
الحالة الثانية: هي من صدر قرارات بحقهم وتم اعتبارهم بحكم المستقيل، وهنا كقسم قضاء إداري ننظر فقط في الذمم المالية، المترتبة على العامل نتيجة انقطاعه عن العمل، وصدور قرار اعتباره بحكم المستقيل.
مع العلم أن جرم ترك العمل جزائي تختص به محاكم البداية الجزائية، وبالتالي فإن المحكمة لها الحق بإصدار حكم جزائي بالحبس على العامل المعتبر بحكم المستقيل، وتطالبه بالذمم المالية المترتبة عليه، وفي حال صدور عفو تسقط العقوبة الجزائية فقط، فقد يكون مشمولاً بالعفو الحبس، وإذا كانت الغرامة غير مشمولة بالعفو، تقوم إدارات الدولة بإرسال كتاب إلى إدارة قضايا الدولة، قسم القضاء الإداري لإقامة دعوى بحق العاملين المترتبة عليهم ذمم مالية.
يتابع سلمون الحديث حول تساؤلنا عن العامل في الدولة الذي أجبر على ترك عمله بسبب الظروف الكارثية التي تهدد حياته، هل يجوز التعاطي معهم وكأنهم كانوا في ظرف طبيعي؟
الأصل بالوظيفة العامة تحقيق استقرار اجتماعي لكل العاملين بالدولة، في الحرب اضطر كثر لترك وظائفهم ومغادرة البلاد لأسباب شتى؛ أهمها تهديد الحياة بسبب الوضع الأمني، ولأسباب أخرى عديدة: الاقتصادية، فقدان المنزل، لكن الأهم الجانب الأمني، وكان العديد منهم مطلوبين للأمن، وهناك خطر يتهدد حياتهم، لخروجهم في مظاهرات ضد النظام المخلوع، لأي سبب ومطلوبين على الحواجز.
المشكلة بالتشريعات
وحول سؤال لماذا لا تسقط الغرامات والتي غالباً كانت كيدية، أو تمت مضاعفتها للانتقام ممن انشقوا عن النظام، وهي عقوبة ظالمة خاصة مع تضخم الليرة السورية وتغير سعر الصرف؟
المشكلة هنا بالتشريعات فقد صدرت مراسيم عام (2017- 2018) تطالب بالدولار على سبيل المثال الطلاب الموفدين ممن لم يعودوا إلى سوريا لتسوية أوضاعهم، رغم أن قسماً منهم كان مطلوباً أمنياً، فقد تمت مضاعفة المبلغ، وعليه تسديده بالدولار بسعر الصرف أثناء صدور الحكم القضائي لأن كل من لم يلتحق بمؤسسته بعد انتهاء الإيفاد يعتبر ناكلاً، حتى إذا عاد اليوم كي يسوي وضعه مع الإدارة، سوف يضطر لدفع نفقات الإيفاد بالدولار أو بما يعادله بالليرة السورية بتاريخ السداد.
حتى بالنسبة للموفدين المستنكفين عن خدمة الدولة، يقاضون تحت بند جرم ترك العمل، ويطبق عليهم قانون العمل النافذ حالياً.
ما هي الحلول؟
لا شك أن هذه القضية الشائكة تحتاج إلى تضافر جهات عدة والإيمان بضرورة حلها، وفي تحقيقنا حاولنا البحث عن إضاءات لعلها تفضي بنا إلى الحل.
يقول أسامة سلمون رئيس قسم القضاء الإداري في مجلس قضايا الدولة: لابد من إعادة دراسة كل قرار صرف على حدة، وبيان السبب الحقيقي، للصرف من الخدمة، باعتبار أن بعض قرارات الصرف هي قرارات قسرية.
وأعتقد أن لدى الإدارة الجديدة فيما يخص هذا الملف مهمة كبيرة، ومن المفروض دراسة جميع الحالات من دون استثناء لجميع مؤسسات الدولة، وتتم دراسة متكاملة وقانونية لإنصاف هؤلاء الموظفين.
مؤخراً تم توجيه كتاب من وزير العدل السابق إلى المؤسسات القضائية لإعداد دراسة حول القوانين النافذة حالياً، ولكن ليس بالضرورة أن تلغي الدراسة القوانين المرتبطة بانشقاق العاملين.
عفو
الإعلامي مصطفى علوش يقول: أقترح أن تجد الحكومة الحالية حلاً يشمل هذه الحالات، ربما: عفو، تسهيلات، أو حصر إجراء هذه المعاملات بجهة واحدة، متمكنة، غير متحيزة، بحيث تتمكن من حل جميع العقبات الإدارية والقانونية عبر جهة أو نافذة واحدة، مهما كانت هذه المشكلات معقدة.
الحل بيد الحكومة الحالية، وليس لدي أي تصور آخر، مجرد تفكيري بالزيارة يجعلني أبحث عن إجابات لكن هذه المشكلات حتى اللحظة قائمة، كثر منا يؤجلون زيارتهم لبلدهم بانتظار الحلول المؤجلة، موقنين أن الإدارة الجديدة سوف تجد حلاً لمشكلة بكل هذه التعقيدات ومن هذا العيار الثقيل.