أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي:
مع انهيار نظام بشار الأسد، بدأت سوريا تتجه نحو إعادة ترميم صورتها الإقليمية والدولية، بعد سنوات طويلة من تصدّرها عناوين تجارة المخدرات، لا سيما “الكبتاغون”، وتحولها إلى مصدر رئيسي لهذه السموم التي أغرقت دول الجوار والمنطقة بأسرها.
واليوم، تعلن السلطات الجديدة في دمشق عن بداية حقبة مغايرة، وتأكيد رسمي على تفكيك كامل للبنية التي قامت عليها ما وُصف بـ”جمهورية الكبتاغون الأسدية”.
وزير الداخلية السوري، أنس خطاب، صرّح في مقابلة مع قناة “الإخبارية السورية” بأن سوريا تمكنت من القضاء الكامل على صناعة الكبتاغون، من خلال تفكيك ومصادرة كل المعامل والمعدات التي كانت تُستخدم في إنتاج هذه المادة المخدرة.
وأكد خطاب أن سوريا باتت الآن “خالية من أي معمل نشط لإنتاج الكبتاغون”، موضحاً أن غالبية تلك المعامل كانت متركزة في ريف دمشق، وعلى الحدود اللبنانية، وفي الساحل السوري، وكانت تخضع لسيطرة الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع.
ويُعدّ هذا الإعلان مؤشراً على تحوّل جذري في مقاربة السلطة السورية الجديدة لملف المخدرات، إذ كانت سوريا في عهد الأسد مركزاً إقليمياً لإنتاج وتصدير الكبتاغون، وفقاً لتقارير دولية، وحوّلت تجارة هذه المادة المحظورة إلى مصدر دخل رئيسي للنظام السابق، تجاوزت عائداته صادرات البلاد القانونية مجتمعة، وشكّلت في بعض السنوات ما يصل إلى نصف الإيرادات العامة.
وبحسب معهد الشرق الأوسط، بلغت قيمة الكبتاغون السوري المُصادَر خارج البلاد عام 2021 نحو 6 مليارات دولار.
كما أفاد مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية أن النظام حصل على دخل سنوي يُقدّر بـ2.4 مليار دولار بين عامي 2020 و2022 من تجارة الكبتاغون، أي ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا.
في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن إجمالي حجم هذه التجارة وصل إلى 10 مليارات دولار في ذروتها بين عامي 2020 و2023.
وأظهرت تقارير صادرة عن الحكومة البريطانية، ومعهد “نيولاينز” الأميركي، أن سوريا كانت مسؤولة عن إنتاج ما يقرب من 80% من الكبتاغون العالمي، وأن هذه المادة كانت تُهرَّب إلى دول الخليج، والعراق، ولبنان، وشمال إفريقيا، وأخيراً إلى أوروبا، وقد تأثرت الأردن بشكل خاص بهذه الظاهرة، حيث أعلنت سلطاتها عن ضبط ملايين الحبوب القادمة من سوريا، كما شدّدت السعودية إجراءاتها الأمنية، فيما بدأ الاتحاد الأوروبي مؤخراً يتخذ خطوات أكثر صرامة للحد من تدفق الحبوب عبر أراضيه.
ومنذ سقوط نظام الأسد، بدأت السلطات السورية الجديدة بحملة مكثفة لتفكيك ما تبقى من بنية صناعة المخدرات، حيث ضبطت العشرات من المصانع والمعامل في مقار سابقة للفرقة الرابعة أو في فيلات ومراكز عسكرية تابعة لمقربين من النظام المخلوع، وسبق أن كشفت تقارير “مركز التحليلات العملياتية والأبحاث” و”مركز الحوار السوري” عن وجود نحو 50 مركزاً لتصنيع المخدرات في سوريا حتى عام 2021، بينها 14 لإنتاج الكبتاغون، و12 للميثامفيتامين، و23 لإنتاج الحشيش.
هذه المعامل، وفقاً للتقارير، كانت تنتج نوعين من الكبتاغون: نوع منخفض الجودة للسوق المحلي يُباع بدولار واحد للحبة، وآخر مرتفع الجودة مخصص للتصدير يُباع بـ14 دولاراً.
ووفقاً لبيانات أمنية، تمت مصادرة أكثر من 173 مليون حبة كبتاغون و12 طناً من الحشيش خلال عام 2020 وحده، بقيمة سوقية بلغت حوالي 3.5 مليارات دولار.
أيضاً كانت كشفت تقارير صحفية دولية، منها تحقيقات لصحيفتي “نيويورك تايمز” و”دير شبيغل”، أن المعامل كانت تقع في مناطق تسيطر عليها قوات الأسد أو ميليشيات حليفة مثل “حزب الله”، حيث استُخدمت البنية التحتية المدنية — من مصانع أدوية ومستودعات ومرافئ بحرية — لتسهيل عمليات التهريب، بل إن بعض المنشآت أُخفيت تحت غطاء “مواقع عسكرية مغلقة”.
وقد وُصف هذا الاقتصاد الموازي بأنه كان المصدر الأهم لبقاء نظام الأسد مالياً في وجه العقوبات والانهيار الاقتصادي، حيث وفّر التمويل اللازم للميليشيات والأجهزة الأمنية، وساهم في استمرار قمع المعارضة والشعب السوري.
وبحسب “مركز الحوار السوري”، بلغت القيمة السنوية لتجارة الكبتاغون نحو 16 مليار دولار، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ميزانية الحكومة السورية لعام 2022، فيما تُقدَّر أرباح النظام السابقة بنحو 1.8 مليار دولار سنوياً.
اليوم، ومع إعلان خلو سوريا من معامل الكبتاغون، تسعى الحكومة الجديدة لإغلاق هذا الفصل الأسود من تاريخ البلاد، وإعادة تأهيل صورتها أمام المجتمع الدولي، خاصة أمام الدول التي كانت المتضرر الأكبر من هذه التجارة، كالأردن والسعودية، وبينما يبقى التحدي الأمني قائماً بملاحقة شبكات التهريب وضبط الشحنات، إلا أن تفكيك “جمهورية الكبتاغون” يُعدّ خطوة مفصلية في مسار استعادة السيادة والقانون في سوريا الجديدة.