أسرار وأرقام تُكشف لأول مرة هكذا احترقت غابات اللاذقية

الثورة – تحقيق ناديا سعود:

في ظلّ التغيرات المناخية المتسارعة، وتزايد الضغوط البشرية على الموارد الطبيعية، واجهت الغابات السورية تحدياً بيئياً خطيراً تمثل في تصاعد وتيرة الحرائق واتساع رقعتها، لتترك خلفها خسائر فادحة تطال الغطاء النباتي والتنوع الحيوي والمجتمعات المحلية على حدّ سواء.

حالات إنسانية

في الوقت الذي التهمت فيه النيران مساحات شاسعة من الغابات في ريف اللاذقية، لم تقتصر الخسائر على الأشجار والطبيعة، بل امتدت إلى البشر، وأرزاقهم، وأحلامهم، فمن بين ألسنة اللهب والدخان، تتعالى أصوات الأهالي ناقلة معاناتهم في مواجهة كارثة لم تعد موسمية فحسب، بل باتت تهديداً مستمراً للحياة.

أبو وليد، وهو فلاح من ريف اللاذقية، يصف مشهداً يختزل المأساة: “كنا نعتبر الغابة جزءاً من حياتنا اليومية، نمشي فيها ونقطف الأعشاب البرية، اليوم نحترق معها، الدخان دخل بيوتنا والخوف أصبح رفيقنا اليومي، خسرنا مصدر رزقنا وشعورنا بالأمان.”
ويضيف بحسرة: “أرضي احترقت بالكامل. الزيتون الذي ورثته عن أبي وجدّي صار رماداً، تعب السنين ذهب بساعات قليلة، نتمنى أن يتم تعويضنا عن خسائرنا من قبل الحكومة.

من جانبها، ترى نسرين، الطالبة الجامعية، أن الكارثة أكبر من مجرد حريق، فالحرائق ما عادت مجرد كوارث طبيعية، بل أسهم إهمال المعنيين بسلامة الغابات فيما حصل، لا توجد استعدادات كافية، رغم أننا نتعرض للحرائق كل عام.
وأضافت: الغابة هي مستقبلنا، وهي التي تحمينا من التصحر والتغيّر المناخي.”

أما يوسف، متطوع في إطفاء الحرائق يبلغ من العمر 26 عاماً، يتحدث عن المعاناة من قلب الحدث: “نعمل بكل إمكانياتنا المتواضعة، أغلبنا شباب متطوعون، ليس هناك وقت لانتظار المساعدة، فالنار كانت تصل لعتبات البيوت.

سارة، وهي أم لثلاثة أطفال، تروي الجانب الإنساني من الكارثة: “أثّر الحريق علينا صحياً، أطفالي أصبح لديهم حساسية من الدخان، ولم نستطع المغادرة بسبب ظروفنا المادية، الكارثة ليست فقط بيئية، إنها إنسانية ايضاً.

أما أبو جاد، مربي نحل من منطقة الغاب، فقد خسر كل شيء: “خسرت أكثر من 40 خلية نحل، والنحل لم يعد أبداً.. لا أحد يعلم مدى حساسية هذه المهنة لأي تغيير في البيئة، أنا حالياً بلا عمل، والنحل كان كل مصدر رزقي.”

دراسة التربة

المهندس الزراعي ميسم جليس، تحدث لصحيفة الثورة عن متطلبات إعادة التشجير، ومعرفة أنواع الأشجار المناسبة، مبيناً أنه لابد من دراسة التربة ومعرفة مدى الضرر الذي أصابها، ومعرفة شدة الحرائق لمعرفة إمكانية نمو بعض الأشجار بشكل تلقائي، فذلك ممكن حين تكون الحرائق سطحية لم تقض على جذور الأشجار، أما إذا تضررت الجذور فلا بد من عملية تشجير جديدة، ودعم التربة لتستعيد خصوبتها.
ودعا م. جليس للاستفادة من خبرة المزارعين من أبناء المنطقة الذين تعرضت أراضيهم وأشجارهم لحرائق سابقاً، وأعادوا زراعتها.
وأضاف: إن إعادة تأهيل الغابات المحترقة عملية تحتاج إلى دراسة وجهود كبيرة.

200 حريق
معاون وزير الإدارة المحلية والبيئة الدكتور يوسف شرف، تحدث لصحيفة الثورة عن واقع الحرائق هذا العام، والأسباب الكامنة خلفها، وتداعياتها البيئية، إلى جانب الخطط الحكومية الطارئة وطويلة الأمد لمواجهة هذا الخطر المتفاقم، وبيّن أن عدد الحرائق المسجلة في سوريا منذ بداية عام 2025 وحتى منتصف تموز بلغ 200 حريق، التهمت نحو 25 ألف هكتار من المساحات الحراجية، منها نحو 20 ألف هكتار في محافظة اللاذقية وحدها خلال سلسلة حرائق بين 3 و13 تموز، امتدت إلى الأراضي الزراعية المجاورة.
الدكتور شرف بيّن أن حرائق هذا العام تُعد الأوسع من حيث المساحة مقارنة بالأعوام الخمسة الماضية، رغم أنها أقل عدداً من حرائق عام 2020 التي وصلت إلى 439 حريقاً بمساحة 910 هكتارات. وفي عام 2024، سجلت 145 حريقاً فقط بمساحة 135 هكتاراً، فيما كانت أكبر مساحة متضررة خلال الفترة بين 2020-2024 في عام 2023، إذ بلغت 3694 هكتاراً.

أسباب الحرائق

وأوضح د. شرف أن اندلاع الحرائق في الغابات السورية التي لا تتجاوز 3 بالمئة من مساحة البلاد حتى عام 2024، يعود إلى تضافر مجموعة من العوامل:

أولاً: تغيرات مناخية واضحة تمثلت بانخفاض معدلات الأمطار إلى ما دون 50 بالمئة من المعدل السنوي في عدد من المحافظات، وزيادة شدة الجفاف وطول مدته، ما جعل الغطاء النباتي أكثر عرضة للاشتعال، خاصة في المناطق الجبلية الوعرة حيث تُسرّع الرياح من انتشار النيران.

ثانياً: الممارسات البشرية غير السليمة، وعلى رأسها التحريق الزراعي الذي تسبب في 1180 حريقاً حتى عام 2024 بمساحة 2683 هكتاراً، إضافة إلى الأعطال الكهربائية، وأعمال تنظيف الطرقات، ومكبات النفايات.

ثالثاً: الحرائق المفتعلة بقصد التعدي أو التخريب، والتي بلغت 12 حريقاً خلال الفترة 2020-2024، تُعد من أخطر الأسباب.
رابعاً: بقايا الألغام والذخائر في بعض المناطق، التي تزيد من احتمالية اندلاع الحرائق وتعرقل عمليات الإطفاء.

خامساً: ضعف الحوكمة ونقص التوعية والإمكانات، ما ساهم في توسع رقعة انتشار الحرائق وزيادة صعوبة مكافحتها.

توثيق دقيق وخطة للتعافي

أكد معاون الوزير أن وزارة الإدارة المحلية والبيئة، استناداً إلى قانون البيئة رقم 12 لعام 2012، باشرت بتقييم الأثر البيئي للحرائق عبر فرق ميدانية متخصصة، وبالتعاون مع الجهات المعنية، وذلك باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد والمسوحات الميدانية للغطاء النباتي والتربة والمياه والتنوع الحيوي، إلى جانب توثيق الأضرار الاجتماعية والاقتصادية على المجتمعات المحلية المتأثرة، من خلال ثلاثة استمارات ميدانية.
وبيّن أن الجهود تتركز حالياً على توثيق الواقع البيئي في المواقع المحروقة بمحافظة اللاذقية خلال شهر تموز 2025، بهدف بناء قاعدة بيانات علمية تخدم عمليات التعافي البيئي القائم على الأدلة.

الحماية أولاً ثم التشجير الذكي
وفي إطار قانون الحراج رقم 39 لعام 2023 وتعليماته التنفيذية، تعمل الوزارة على تقييم المواقع المحروقة وتحديد إمكانية تجددها طبيعياً، مع فرض حماية صارمة لها لمدة سنتين قابلة للتمديد، تتضمن:
أولاً: حظر الدخول والرعي والنشاطات السياحية وجمع المنتجات الحراجية.
ثانياً: تنفيذ إجراءات لمنع انجراف التربة.
ثالثاً: استخدام نباتات محلية مقاومة للجفاف لإعادة التأهيل.
رابعاً: إشراك المجتمع المحلي في التوعية والوقاية والمراقبة.
وأكد الدكتور شرف أن الوزارة تبنّت في السنوات الأخيرة نهجاً جديداً في برامج التشجير، يتمثل بعدم التوسع في زراعة غابات جديدة، بل التركيز على صيانة الغابات الحالية وإعادة تأهيل المتدهورة منها، عبر تأمين غراس محلية ملائمة مناخياً وبيئياً، رغم التحديات التمويلية وضعف الموارد.

استراتيجية وقائية

أوضح الدكتور شرف أن الوزارة تنتهج مساراً استباقياً لتقليل خطر تكرار الحرائق في نفس المواقع، بالتعاون مع وزارة الزراعة، من خلال:
أولاً: إعداد لوائح بالأنواع الحراجية النادرة والمهددة، وتطوير خطط إدارة المحميات الحراجية.
ثانياً: إدماج مخاطر الحرائق في التخطيط العمراني واستخدام الأراضي.
ثالثاً: تحسين صحة الغابات بعمليات التخفيف الانتقائي وإنشاء خطوط نار وتنظيف الطرق.
رابعاً: تطوير أنظمة الإنذار المبكر والمراقبة الجوية والأرضية.
خامساً: تجهيز أبراج مراقبة ومراكز حماية غابات، وتوسيع فرق الإطفاء بالمعدات الحديثة.
سادساً: إشراك المجتمعات المحلية وتعزيز وعيها بمخاطر الحرائق وأساليب الوقاية منها.
كما أشار إلى دور الوزارة كنقطة اتصال وطنية لاتفاقيات ريو، وتعاونها مع المنظمات الدولية كـUNDP وFAO لتأمين التمويل وتنفيذ مشاريع إدارة متكاملة للنظم البيئية المتدهورة جراء الحرائق.

عقوبات صارمة

أكد الدكتور شرف أن قانون الحراج الجديد شدد العقوبات على المتسببين بحرائق الغابات، حيث نصّت المادة 43 على السجن من 10 إلى 20 سنة وغرامات تصل إلى 10 أضعاف قيمة الضرر، وصولاً إلى الإعدام إذا نجم عن الحريق وفاة إنسان.
كما فرضت المادة 44 عقوبات تتراوح بين سنة إلى عشرين سنة لمن يتسبب بإهماله أو مخالفته للقوانين في نشوب حريق يؤدي إلى ضرر بالغ أو وفاة.

نحو غابات أكثر أماناً واستدامة

في ختام حديثه، شدد الدكتور شرف على ضرورة تعزيز منظومة الوقاية المجتمعية والاعتماد على المعارف المحلية، إلى جانب دعم البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة، وتطوير الأطر القانونية بالتوازي مع بناء شراكات قوية مع القطاع الخاص والمنظمات المحلية والدولية.
إن ما تواجهه الغابات السورية اليوم من تهديدات يتطلب استجابة متكاملة ترتكز على الإدارة المستدامة، والوعي المجتمعي، والقدرات المؤسسية، لتظل هذه الثروة الوطنية رئة طبيعية وملاذاً للتنوع الحيوي، وأحد أعمدة الأمن البيئي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا.

آخر الأخبار
المئات من أهالي العنازة بريف بانياس يقولون كلمتهم: سوريا واحدة موحدة ويجمعنا حب الوطن مشاركة لافتة للمغتربين في "كيم أكسبو".. أثبتوا جدارتهم في السوق الدولية فرنسا تلغي مذكرة التوقيف بحق المخلوع  الأسد وسط تصاعد المطالبات بالمحاسبة الدولية فعاليات من اللاذقية لـ"الثورة": سيادة القانون والعدالة من أهم مرتكزات السلم الأهلي وزير الاستثمار السعودي يطلع على الموروث الحضاري في متحف دمشق الوطني مذكرة تفاهم سياحي بين اتحاد العمال وشركة "لو بارك كونكورد" السعودية كهرباء ريف دمشق تتابع إصلاح الأعطال خلال يوم العطلة وزير الاستثمار السعودي يزور المسجد الأموي محافظ درعا: استقبلنا نحو 35 ألف مهجر من السويداء ونعمل على توفير المستلزمات باريس تحتضن اجتماعاً سورياً فرنسياً أمريكياً يدعم مسار الانتقال السياسي والاستقرار في سوريا فيصل القاسم يدعو إلى نبذ التحريض والتجييش الإعلامي: كفانا وقوداً في صراعات الآخرين الحفاظ على السلم الأهلي واجب وطني.. والعبث به خيانة لا تغتفر  الأمن الداخلي يُجلي عائلة أردنية علقت في السويداء أثناء زيارة لأقاربها "الصمت الرقمي".. كيف غيّرت وسائل التواصل شكل الأسرة الحديثة؟  عودة اللاجئين السوريين.. تحديات الواقع ومسارات الحل  نائبة أميركية تدعو لإنهاء "الإبادة الجماعية" في غزة وئام وهاب… دعوات للعنف والتحريض الطائفي تحت مجهر القانون السوري الأمم المتحدة ترحب برفع العقوبات عن سوريا وتعتبرها خطوة حاسمة لتعافي البلاد الاستثمار السعودي حياة جديدة للسوريين ..  مشاريع استراتيجية لإحياء العاصمة دمشق  الباحثة نورهان الكردي لـ "الثورة": الاستثمارات السعودية  شريان حياة اقتصادي لسوريا