الثورة – غصون سليمان:
لعله من أكثر المؤثرات الوجدانية في حياتنا الجامعية، وحفرت في أذهاننا قصة مدينة، هي أيام وليالي معرض دمشق الدولي في دوراته المتتالية، حين وطأت أقدامنا نحن أبناء المحافظات السورية أرض العاصمة دمشق.. أكثر ما كنا نتوق إليه كطلاب وزملاء هو رؤية فعاليات المعرض عن قرب، بعدما كان السمع والمشاهدة عن بعد عبر التلفاز.. فما زالت تلك الصورة المشهدية من على جسر البرامكة تشي بكثير من الألق لذاكرة وطن وشعب أحب الحياة، فنثر تفاصيلها في كل الاتجاهات.
فمعرض دمشق الدولي الذي انطلق عام 1954، كان في بعده الاجتماعي أكثر من مناسبة للالتقاء، فهو لم يقتصر على أبناء المدينة كجغرافية، وإنما كان المعرض مناسبة لالتقاء السوريين من مختلف المدن والقرى، ولزيارة عائلات وأسر بأكملها “وكروبات جماعية” للأصدقاء، ما جعله فسحة أمل واستكشاف وساحة عامة للتعارف والتلاقي والتواصل الاجتماعي.
وما ذكرته السيدة المربية آمال حسو، التي بلغت عامها الثمانين الشهر الفائت، ما هو إلا عينة من ذاك الزمن الحافل برمزية الحياة وجمالها، تستذكر كيف كانت تصطحب وزوجها، عائلتها من صغار وكبار قادمة من حلب لتؤمن لها منزلاً متواضعاً قبل بدء دورة المعرض بأيام، لطالما يمثل مهرجاناً للفرح.. فهو لم يقتصر على عرض المنتجات المتنافسة بين العارضين من صناعية وتجارية وخدمية وترفيهية، بل ارتبط في الذاكرة بألوان الاحتفالات، والعروض الفنية الرائعة، والحفلات الغنائية التي كانت تجذب آلاف الزوار يومياً، حتى بات جزءاً من طقوس الصيف في سماء دمشق.
إحياء روابط المجتمع
الدكتورة أمل دكاك- قسم علم الاجتماع- جامعة دمشق، أوضحت في هذا السياق أن معرض دمشق الدولي بما يمثله من حدث محلي وعالمي، تنبع أهميته من دوره الاجتماعي العميق بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كونه يمثل جانباً مهماً من جوانب إعادة إحياء الروابط والألفة بين أبناء المجتمع بكل مكوناته، إذ يجمع المعرض المئات وآلاف الزوار من مختلف المحافظات، ما يعزز التلاقي والتعارف الموسمي، كما يشكل منتزهاً ومتنفساً للأسر والعائلات من خلال الفعاليات والأنشطة المرافقة.
ولعل الأجمل في انعقاد هذه الدورة بعد التحرير تقول دكاك: إن المعرض يعكس الصورة الحقيقية لصمود المجتمع السوري ورغبته في الحياة رغم جميع التحديات والصعوبات التي تقف عائقاً أمام الانفتاح والتقدم والتطور، فالتواصل الإنساني يجمع السوريين مهما اختلفت الآراء وتباينت، إلا أن ما يجمعنا كمجتمع أكثر مما يفرقنا.
وتمنت دكاك الخير والسلام والأمان لسوريا.. بلد الخير والمحبة والحضارة والوئام، والانطلاق الواعدة للمعرض في السابع والعشرين من آب الحالي لعام ٢٠٢٥على أرض مدينة المعارض.
مدرسة اجتماعية
ووصفت ميادة الحافظ- عضو المكتب التنفيذي لاتحاد عمال دمشق وريفها سابقاً معرض دمشق الدولي، أنه أحد أهم نوافذ سوريا على العالم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فمن خلال الأجنحة المتعددة للدول المشاركة، يتعرّف الزائرون على ثقافات متعددة، وعادات وتقاليد، وأطعمة تراثية وجديدة، ومنتجات مختلفة، ناهيك عن أنماط حياة لم تكن مألوفة أو معروفة لديهم، ما جعل هذا المعرض مدرسة اجتماعية وثقافية مفتوحة على الجميع.
وبينت أنه بعد سنوات من الحرب وأعبائها المرهقة على الشعب وتوقف العديد من الأنشطة والفعاليات، يعود المعرض بعد التحرير اليوم ليؤكد خيار سوريا الصائب في الانفتاح على العالم بعد حصار وعزلة دولية أثرت سلباً على حياة السوريين على جميع الصعد.
صور حية
وبين المدرس غسان سليمان في أحد المعاهد التجارية أن عمر معرض دمشق الدولي مثل عبر عقود من الزمن ذاكرة حية للأجيال، لطالما ارتبط المعرض بذكريات مختلفة، عائلية وأخرى شخصية، وعلاقات صداقة وتعارف وانفتاح لدى أجيال متعاقبة، فما زال يذكر صور أطفاله والأطفال الآخرين، مع الألعاب، وطرق شراء الهدايا التذكارية، ومشاهدة العروض الضوئية التي حملت معها العديد من التساؤلات البريئة حينها، أما السير في ممرات تلك الأجنحة فقد كان ” بمثابة رحلة بانورامية حول العالم” في مكان جغرافي واحد.
حقاً كانت أياماً مدهشة- يؤكد سليمان، متمنياً أن تعود وقد استعادت سوريا عافيتها وحضورها الذي يليق بها.. فمعرض دمشق الدولي سيظل -حسب رأيه- شاهداً على أن التنمية الحقيقية لا تقوم على الأرقام الاقتصادية وحدها، بل على التكامل بين الثقافة والاقتصاد والمجتمع، بما يعزز الهوية الوطنية ويفتح آفاق التعاون مع الشعوب والدول الأخرى.
ذاكرة مكان
الدكتورة رجاء الحسن- الباحثة في قضايا الشباب، نوهت بأن المعرض لم يكن في يوم من الأيام مجرد حدث عابر، بل ذاكرة جمعية محفورة في المكان، حيث أرض مدينة المعارض القديمة على طريق المزة، أو الجديدة على طريق المطار، تحمل في وجدان الناس ممن عاصروا وشاهدوا وقائعه ويومياته، حكايات وذكريات شخصية وجماعية، فهو أرشيف حيّ كما تقول الحسن يتجاوز كونه فعالية اقتصادية ليصبح جزءاً من الهوية الاجتماعية والثقافية السورية.
وأضافت: إن المعرض لم يعد مجرد حدث وواقع اقتصادي وتجاري، بل تعداه في البعد الاجتماعي والثقافي العميق، ما جعله واحداً من أبرز وأهم الفعاليات التي تركت أثرها في ذاكرة السوريين والعرب على مدى عقود.
فحين نتحدث عن “ذاكرة على الأرض”، فنحن نقصد أن هذا المعرض تحوّل إلى فضاء للقاء الناس، وتبادل الخبرات، والتفاعل بين الثقافات، ناهيك عن رمزيته الوطنية والعربية.
راحة نفس
المرشدة الاجتماعية والنفسية سناء جميل، أوضحت أن المعرض لا يقتصر على جوانب محددة، وإنما صورة للتنوع الثقافي الغني الذي تتمتع فيه سوريا، إذ يعكس المعرض من خلال أجنحته ألوان التراث السوري من حرف يدوية متنوعة، ومأكولات شعبية.
وملابس أقمشة ومنسوجات عريقة من القطن السوري فائق الجودة، ناهيك عن أثر الراحة النفسية التي كانت تشهدها الفعاليات الفنية كالحفلات الموسيقية، والعروض المسرحية، ومعارض الكتب وغيرها.
المرشدة جميل التي اعتادت على زيارة المعرض في معظم دوراته، لطالما تقطن في أحد أحياء العاصمة دمشق، أشارت إلى أهمية مشاركة الوفود الثقافية من عربية وأجنبية، ما يحول الصورة إلى ملتقى للحوار الثقافي.
يبقى معرض دمشق الدولي في بعده الرمزي والواقعي عنواناً لصمود دمشق وكامل الجغرافية السورية، وانفتاحها على العالم، وفي الوقت نفسه شاهداً على تحولات المجتمع السوري منذ الخمسينيات وحتى اليوم.