من دفاتر ممزقة إلى أحلام مؤجلة.. جيل على حافة الضياع.. بين دمار المدارس وانسداد الأفق

الثورة – لينا شلهوب:

في شوارعٍ أتعبتها سنوات النزاع، وعلى أنقاض جدران المدارس التي تحوّلت إلى أطلال، يخطّ أطفال سوريا مستقبلاً محفوفاً بالأسئلة، إذ يرسمون مستقبل جيل كامل بخطايا النقص، من مدارس مهدّمة، وكتب قليلة، ودفاتر ممزقة، مقاعد محطمة، والسبورة غطاها الغبار، ناهيك عن أجور مدرسين لا تسدّ رمق العيش، وشباب يختار الهجرة كخيار وحيد أمام أبوابٍ مغلقة، أما الطموحات فمؤجلة، بين شباب يبحث عن فرصة للخلاص، وآباء يبيعون أثاثهم كي يدفعوا تكاليف تعليم أبنائهم، مشهد يختصر معاناة جيل كامل يقف اليوم على حافة الضياع، والكثير من المعوقات التي تقف أمام جيل الغد.

بعد أكثر من عقد من النزاع، يتأرجح وضع التعليم من أرقام المنظمات الدولية، إلى شهادات أولياء الأمور، والمعلمين، والطلاب، إلى رأي المختصين في التربية والاقتصاد، وصولاً إلى تحليل السياسات الرسمية، وخارطة مقترحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

انهيار بنية تحتية وتسرّب جماعي

منذ العام 2011 تلقّى قطاع التعليم ضربة قاسية، إذ تشير تقارير الأمم المتحدة واليونيسف إلى أن أكثر من 40 بالمئة من المدارس في سوريا خرجت عن الخدمة، بين دمار كامل، أو تحويلها إلى مراكز إيواء، أو ثكنات عسكرية، وملايين الأطفال باتوا خارج مقاعد الدراسة، تقديرات مختلفة تضع الرقم بين مليوني طفل وأكثر، فيما يهدد خطر التسرّب عشرات الآلاف الآخرين.

حتى المدارس التي لا تزال قائمة تعاني من اكتظاظ خانق، ففي بعض الصفوف يجلس أكثر من 60 طالباً في غرفة لا تحتمل نصف هذا العدد، ومع كل هذا، تغيب مواد تعليمية أساسية، من كتب، دفاتر، وسائل إيضاح، وحتى مقاعد يجلس عليها الأطفال.

جنود بلا عتاد

الأزمة لم تقتصر على الطلاب، المعلمون أنفسهم يعيشون تحت ضغط هائل، فالرواتب الشهرية كانت لا تتجاوز في كثير من الأحيان 30- 40 دولاراً بالقيمة الفعلية، وهو ما لا يكفي لإعالة أسرة لأسبوع واحد، بغض النظر عما طرأ على الراتب من زيادة منذ شهر فقط، علماً أن المتعاقدين لم يحصلوا عليها بعد.

تقول أم علاء الشيباني، وهي معلمة لغة عربية منذ 15 عاماً: أحب مهنتي، لكن راتبي لا يطعم أطفالي، وتضيف بصوت متردد: أفكر جديّاً في ترك التدريس أو الهجرة، وأعلم أن كثيرين غيري يفكرون بذلك، كما أعلم أن الطلاب هم الخاسر الأكبر من هذا الوضع، لكن ماذا أفعل؟.

هذه المعاناة دفعت كثيرين من المعلمين إلى الاستقالة، أو البحث عن وظائف بديلة، أو حتى الهجرة، إذ إن مدارس بأكملها وجدت نفسها تعتمد على متطوعين غير مؤهلين، أو تلجأ إلى دمج صفوف دراسية متعددة في حجرة واحدة.

الفقر هو المحرك الأول لتسرب الأطفال، عائلات بأكملها تجد نفسها أمام خيار قاسٍ، فإما إرسال الطفل إلى المدرسة، وإما دفعه إلى العمل لمساعدة الأسرة على البقاء، وتروي أم مصطفى عبد الرحمن نازحة وأم لخمسة أطفال: ابني ترك المدرسة في الصف السابع ليعمل في ورشة حدادة، وكنا مضطرين لهذا الحل، فالعمل وفر لنا ثمن الطعام، وتتابع: لكن قلبي يتمزق وأنا أراه يحرم نفسه من حلمه بمتابعة دراسته.

قصص مشابهة تتكرر في المخيمات كما في المدن المدمرة، في بعض المناطق، أطفال يعملون في الورش أو يبيعون السجائر في الشوارع، أو يغسلون زجاج السيارات المارة بدلاً من الدراسة، وكذلك في الجامعات، تسجَّل نسب انقطاع مقلقة، مدفوعة بالضغوط الاقتصادية ورغبة كثير من الطلاب في الهجرة.

شهادات من الجيل الضائع

يوسف ريدان 24 عاماً، خريج هندسة ميكانيكية، بيّن أنه تخرّج منذ سنتين، ولم يجد عملاً في مجاله أو اختصاصه، لذا اضطر أن يعمل نادلاً في مقهى، على أمل أن تأتي الفرصة التي تضعه أينما يريد، ثم حاول السفر، لكن دون جدوى، لافتاً إلى أنه يشعر أن سنوات الجامعة لم تمنحه سوى شهادة ورقية.

تغريد هلال طالبة أدب إنكليزي، تقول: أدرس وأتساءل.. ماذا بعد؟ أرى صديقاتي يفكرن بالزواج المبكر أو الهجرة، لأنه لا أحد يرى مستقبلاً هنا، حتى أساتذتنا يغادرون واحداً تلو الآخر، وأما أعيننا نفتقد كثيرون.

أما أبو أحمد الشبلي، ولي أمر، 52 عاماً، فيروي لنا قائلاً: كنت أرى التعليم باب الأمل لأبنائي، فيما اليوم لا أعرف إن كان ذلك يستحق التضحية، مشيراً إلى أن ابن أخيه تخرّج في كلية الحقوق، وهو حالياً يعمل سائق أجرة، فهل هذه عدالة؟.

وعود على الورق

أعلنت وزارة التربية (السابقة) مراراً عن خطط لإعادة تأهيل المدارس وتطوير المناهج بالتعاون مع منظمات دولية، لكن هذه المشاريع تصطدم دائماً بجدار التمويل، فالموازنات المرصودة لا تغطي حتى 20 بالمئة من الاحتياجات، بحسب خبير تربوي فضّل عدم ذكر اسمه، فيما يأمل كثيرون، ويعوّلون أكثر على الوزارة الحالية للسير قدماً بموكب التعليم والنهوض به.

أما وزارة التعليم العالي، فقد تحدثت عن مسارات تعليم مهني وربط الجامعات بسوق العمل، لكن الواقع مختلف: بنية تحتية منهكة، مختبرات شبه معطلة، وهجرة جماعية للكفاءات الأكاديمية.

فيما يعلّق الدكتور محمد شحادة أستاذ علم الاجتماع التربوي، قائلاً: نسمع عن مشاريع الشراكة والتطوير منذ سنوات، لكن التنفيذ على الأرض بطيء جداً، وأحياناً شكلي، ويضيف: دون رفع رواتب المعلمين وتحسين بيئة الجامعات، ستبقى الخطط حبراً على ورق.

بين التصريحات والواقع

الأرقام الرسمية غالباً ما تقل عن تقديرات المنظمات الدولية، ففيما تعترف الحكومة بوجود نحو مليون طفل خارج المدرسة، تقول تقارير أممية إن العدد يتجاوز المليونين، كذلك، يجري الحديث عن إصلاح المناهج، من دون تدريب كافٍ للمعلمين، أو توفير الوسائل التعليمية.

وهنا يوضح الباحث التربوي ماهر درويش، أن الخطاب الرسمي يركّز على الإنجازات، لكن الواقع اليومي للتلاميذ يكشف غير ذلك.. صفوف مكتظة، مدارس مظلمة، ومعلمون يدرّسون وهم يفكرون كيف يطعمون أولادهم.ويستكمل حديثه بالقول: هناك آثار سلبية تقع على جيل الشباب، منها: وجود فجوة في المهارات، فانقطاع التعليم وتراجع جودته يعني أن جيلاً كاملاً يفتقر إلى أساسيات المعرفة، ناهيك عن حدوث بطالة متفاقمة، إذ إن حتى الخريجون الجامعيون يجدون أنفسهم بلا عمل، ما يدفعهم إلى الهجرة أو العمل في مهن لا تناسب مؤهلاتهم، والأكثر من ذلك، تآكل الأمل، فهذا اليأس من المستقبل يولّد ظواهر اجتماعية خطيرة، بالإضافة إلى هجرة العقول، فاستمرار نزيف الكفاءات يترك الجامعات والمدارس خاوية من الخبرات.

ماذا يقول المختصون؟

تقول الباحثة التربوية دعاء شلهوب: لا يمكن فصل أزمة التعليم عن الأزمة الاقتصادية، وإذا لم تتوفر وظائف، سيبقى التعليم بلا قيمة عملية، والتعليم المسرّع والتقني هو الحل المؤقت لتقليص الفجوة، لكن لا بد من إصلاح شامل، منوهة بأن المجتمع المدني قادر على المساعدة عبر مبادرات صغيرة، من خلال مكتبات متنقلة، صفوف مؤقتة، ودعم نفسي للأطفال على مستوى السياسات الوطنية، تتابع بالقول: لابد من خطة طوارئ وطنية للتعليم تمتد لخمس سنوات بتمويل دولي ومحلي، مع رفع رواتب المعلمين، ومنح حوافز مالية لضمان بقاء الكادر، كذلك لابد من برامج التعليم المسرّع للأطفال المتسربين مع اعتراف مدروس ورسمي بشهاداتهم، بعد ذلك ربط التعليم العالي بسوق العمل عبر شراكات مع القطاع الخاص وبرامج تدريبية.

أما على مستوى المشاريع الميدانية، تستكمل شلهوب حديثها: ينبغي إحداث صفوف مؤقتة في المخيمات، وتأمين أجهزة لوحية بمحتوى تعليمي، بالإضافة إلى مختبرات متنقلة للتجارب العملية، وبرامج دعم نفسي للطلاب، فضلاً عن تنفيذ حملات توعية لحماية الفتيات من التسرب.وكشفت عن قائمة عاجلة لإنقاذ التعليم: من خلال توفير دفاتر وكتب مدرسية، أثاث جديد معدات تدريب مهني، طاقة شمسية للمدارس، وسائل نقل للطلاب، ودفعات نقدية مشروطة للأسر الفقيرة.

التعليم كأمل أخير

التعليم في سوريا اليوم ليس مجرد حق، بل ضرورة وجودية، هو الأمل الأخير أمام جيلٍ يواجه خطر الضياع الكامل، وإنقاذه يتطلب رؤية شاملة، إرادة سياسية، وتمويل حقيقي، إضافة إلى دور نشط من المجتمع المدني والمنظمات الدولية، لأن هناك جيلاً كاملً مهدداً بالضياع إذا لم تتخذ خطوات جادة.

وانطلاقاً من ذلك، فإن المدارس يمكن إعادة بنائها، والمعلمين يمكن دعمهم، لكن ما لن يعوّض هو الزمن الضائع من أعمار ملايين الأطفال والشباب.

يجب ان نتكاتف جميعاً لربط التعليم بفرص حياة واقعية، تمنح الشباب سبباً للبقاء والعمل في وطنهم، في نهاية المطاف، فإن مستقبل سوريا مرهون بقدرتها على حماية جيلها الشاب من أن يكون ضحية أخرى للحرب، وسوريا التي تنهض غداً، لن تنهض بغير عقول أبنائها، لذا يمكن البدء من الآن بترميم ما تبقى من أمل، لأن إنقاذ التعليم ليس خياراً ثانوياً، إنه الشرط الأساسي لبقاء وطن قادر على الحياة.

آخر الأخبار
منظمة "رحمة" تؤكد دعمها للتعليم المهني في درعا معرض دمشق الدولي .. عودة للصوت السوري في ساحة الاقتصاد العالمي صيانة وتركيب محولات كهربائية في جبلة معرض دمشق الدولي نافذة سوريا إلى العالم "المركزي" يضبط بوابة التواصل الإعلامي معرض دمشق الدولي .. رسائل ودلالات نيويورك تايمز: زيارة مشرعين أميركيين إلى سوريا لدفع إلغاء العقوبات ودعم المرحلة الانتقالية قطر تدين التصعيد الإسرائيلي في سوريا وتدعو لتحرك دولي عاجل أردوغان: تركيا ضامن لأمن الأكراد في سوريا وملاذ آمن لشعوب المنطقة الخارجية تدين التصعيد الإسرائيلي في القنيطرة وتؤكد حقها بالدفاع عن أرضها  الاعتداءات الإسرائيلية.. وحق سوريا في الدفاع عن حقوقها الوطنية المشروعة قوات الاحتلال تغتال الحقيقة.. هكذا يعيش ويعمل صحفيو غزة  بين الفائض و انعدام التسويق.. حمضيات طرطوس هموم وشجون.. وحاجة للدعم قرار الخزانة الأميركية.. خطوة تراكمية نحو تعافي سوريا دمشق تستعد للحدث الأهم.. المحافظ يتفقد آخر الاستعدادات في مدينة المعارض عودة اقتصاد الإبداع والهوية.. حرفيو حلب في معرض دمشق الدولي هذا العام الطفل الوحيد.. بين حب الأهل وقلقهم المستمر معرض دمشق الدولي.. جزء من الذاكرة الاجتماعية والاقتصادية لجنة التحقيق في أحداث السويداء تواصل عملها الميداني وتؤكد على الحياد والشفافية التحالف السوري الأميركي..  زيارة الوفد الأميركي إلى دمشق خطوة محورية لدعم تعافي سوريا