الهدوء في دمشق رفاهية مفقودة.. الضوضاء تتفوق.. فمن يحاسب المتسببين؟

الثورة – تحقيق ثورة زينية:

كان الناس في دمشق يجدون في أزقتها القديمة ملاذاً من صخب العالم، لكن الصمت في دمشق تحول اليوم إلى سلعة نادرة، تملأ أجواء المدينة اليوم موجة لا تتوقف من الضجيج الذي يلاحق السكان من أول الصباح حتى خيوط الليل، في خليط قاس من أصوات المولدات الكهربائية ومكبرات الصوت وحركة المرور المزدحمة وورش البناء غير المنظمة. لم يعد الضجيج مجرد حالة صوتية عابرة، بل صار نمط حياة قسرياً، ينال من الجسد ويستنزف النفس وسط غياب تام لأي اكتراث رسمي أو وعي مجتمعي كافٍ. ما يعيشه سكان دمشق يتجاوز الإزعاج المعتاد، ليصبح تلوثاً سمعياً مزمناً يتخطى حدود الاحتمال.

من أين يأتي هذا الصخب؟

وسط هذه الفوضى، تبدو دمشق وكأنها فقدت خصوصيتها وتحولت نهاراتها إلى سباق مستمر من أصوات التنبيهات والضجيج الذي لا ينتهي. وفي هذا السياق، يشير الخبير البيئي رامز النوري إلى أن حركة المرور الخانقة تعتبر أحد أبرز مسببات التلوث الصوتي في المدينة، إذ باتت الشوارع تضج بعشرات الآلاف من المركبات، ومع غياب ثقافة الالتزام بقواعد السير وتفشي استخدام الزمور لأتفه الأسباب صارت الطرقات ساحات مفتوحة للضجيج المستمر. كما يؤكد أن عودة مشاريع البناء إلى الحياة بعد سنوات الحرب زادت من معاناة السكان، مع انتشار ورشات التشييد والترميم العشوائية التي تصدر ضجيجاً مستمراً من آلات ثقيلة ومطارق وأدوات قص الحجر وتكسير الجدران، التي تستمر لساعات طويلة من دون رقابة أو تحديد أوقات عمل واضحة.

ويضيف: لا يقتصر الأمر على ذلك، فالباعة الجوالون الذين يعتمدون على مكبرات الصوت لإعلان بضاعتهم، من سيارات الغاز إلى الخضار والفواكه، يضيفون طبقة أخرى من الضوضاء التي تباغت المارة والمقيمين على حد سواء. وفي مواسم الصيف، تتحول بعض الأحياء إلى ساحات أفراح صاخبة، إذ ترتفع مكبرات الصوت والموسيقا والألعاب النارية من دون اعتبار للأطفال أو المرضى، ما يزيد من معاناة السكان الذين يجدون أنفسهم محاصرين وسط هذا الضجيج المستمر.

الراحة باتت حلماً

في جولة ميدانية لصحيفة الثورة على بعض أحياء دمشق، يروي السكان قصصهم اليومية مع الضجيج عبر شهادات تكشف عمق الأزمة.. نوال بركات- مدرسة، تقول: لا يمر يوم إلا ونسمع صوت المولدات التي تعمل حتى منتصف الليل.. أطفالي يعانون من صعوبة في التركيز في المدرسة، وأنا أشعر بألم في الرأس دائماً، فالمدينة باتت مزدحمة وصاخبة، وأحياناً أصاب بصداع بسبب ضجيج المولدات وأبواق السيارات، والصمت في دمشق صار ذكرى على حد تعبير المدرسة بركات.

يقول نديم السهلي- موظف يسكن في حي البرامكة المزدحم: أعاني من أرق دائم، ففي النهار صوت ورشات تصليح السيارات في زقاق الجن، وفي الليل مولدات الكهرباء تهدر كأنها شاحنات حربية، الراحة لم تعد موجودة حتى لحظات الصمت اختفت، فالضجيج يتسلل إلى كل تفاصيل يومي، أصحو على صوت مولدات، وأمشي في الشارع على وقع أبواق السيارات، وأُجبر على سماع إعلانات صاخبة عبر مكبرات جوالة، أشعر أن رأسي دائماً مثقل كأن المدينة تصرخ طوال الوقت.

الآثار الصحية

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن التعرض المستمر لمستويات صوت تفوق 55 ديسيبلاً قد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، واضطرابات النوم، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض القلبية والنفسية، غير أن القياسات غير الرسمية في أحياء، مثل: المزة، والزاهرة، وركن الدين، والفخامة، والبرامكة، وشارع الثورة تثبت أن الضجيج هناك يتراوح بين 70 و85 ديسيبلاً، وهو ما يعكس أزمة صحية صامتة تنتشر في شوارع العاصمة.

وكانت دراسة محلية أجرتها كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في جامعة دمشق عام 2022، كشفت أن 70 بالمئة من المشاركين يعانون من أعراض مرتبطة بالتلوث السمعي، كالتوتر المستمر، ضعف التركيز، والصداع المتكرر، إضافة إلى ضعف تدريجي في حاسة السمع.

لا حاجة إلى أجهزة قياس للوقوف على حجم المشكلة، فكل من يمر بطرقات المدينة يدرك أن أبواق السيارات تنطلق كصوت عدواني متواصل يختلط بنداءات مكبرات الصوت والموسيقا الصاخبة التي تصدرها بعض المركبات، إضافة إلى هدير المحركات والدراجات النارية التي تتسلل إلى كل ركن من أركان الفضاء السمعي.

الدكتور أمير جزائرلي، يحذر من خطورة الآثار الصحية لهذا التلوث الصوتي والتي لا يمكن تجاهلها، موضحاً أن التعرض المتكرر للضوضاء المرتفعة يؤثر بشكل مباشر على الجهاز السمعي، ويزيد من احتمالات فقدان السمع التدريجي، كما يرتبط التلوث الصوتي بارتفاع ضغط الدم واضطرابات نبض القلب، ما يرفع خطر الإصابة بالأزمات القلبية، إضافة إلى أن العديد من السكان يعانون من اضطرابات النوم الناتجة عن الضجيج الليلي، ما يؤثر سلباً على تركيزهم وأدائهم اليومي.

تدمير صامت

على الجانب النفسي، يؤكد الطبيب المختص في طب الأعصاب ربيع قلاجه أن التعرض المستمر للضجيج يؤدي إلى توتر دائم وارتفاع معدلات القلق والعصبية، كما يظهر بوضوح ارتفاع في السلوك العدواني، وزيادة حالات الصداع النصفي والإرهاق الذهني، ما يضع السكان تحت ضغط نفسي وجسدي متواصل.

وشدد على أن الضوضاء ليست مجرد إزعاج سمعي، بل تلوث حقيقي يؤثر على الوظائف البيولوجية للدماغ والجهاز العصبي، مضيفاً: ما نشهده اليوم في دمشق هو تدمير صامت للصحة النفسية، خاصة لدى الأطفال وكبار السن.

رغم ندرة المبادرات الرسمية، ظهرت بعض المحاولات من منظمات مجتمع مدني وأفراد للحد من هذه الظاهرة، وحملة توعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي حملت عنوان “صوت أقل.. حياة أفضل هدفت لتشجيع الناس على التقليل من استخدام مكبرات الصوت، ومبادرات لتجديد البنى التحتية الكهربائية بهدف تقليل الاعتماد على المولدات الخاصة، ولكن تلك الجهود لا تزال محدودة النطاق وغير مدعومة بشكل رسمي، ما يجعل تأثيرها محدوداً وسط الفوضى الصوتية السائدة.

غياب التشريعات

الجهات الرسمية تنأى بنفسها عن تحمل المسؤولية فوزارة الإدارة المحلية تتذرع بنقص الموارد، بينما البلديات تقول: إن الأولوية للخدمات الأساسية كالطرق والكهرباء والمياه، ولا تُعطي أولوية لملف الضوضاء، وفي الوقت ذاته، يفتقر القانون السوري إلى آليات واضحة وملزمة للتعامل مع التلوث السمعي.

الخبير في تخطيط المدن المهندس محمد حبال أكد ان غياب التشريعات والرقابة الفعالة هو السبب الرئيسي في استمرار المشكلة فلا يوجد جهاز مختص بقياس شدة الضجيج، ولا توجد عقوبات حقيقية على المخالفين كمولدات الكهرباء غير المرخصة و الورش الصناعية العشوائية، والمكبرات الصوتية هي أبرز مصادر الضوضاء ولا يتم التعامل معها بشكل جدي.

المحامي عيسى الهندي يرى أن القانون السوري واضح في مواده المتعلقة بالصحة العامة والإزعاج الصوتي، إذ تنص القوانين البيئية والصحية على تحديد مستويات الضجيج المسموح بها، وتفرض عقوبات على من يتجاوزها، سواء كان فردا أو جهة.

لكن على الأرض، يبدو أن هذه النصوص مجرد حبر على ورق ، مضيفا : من يتجول في دمشق ليلاً أو نهاراً يدرك أن لا أحد يحاسب على التسبب في الإزعاج من الباعة الجوالين الذين يستخدمون مكبرات صوت تكاد تصيب المارة بالصمم، إلى ورش العمل في الأحياء السكنية التي تعمل من دون أدنى اعتبار للساكنين.
من يحاسب؟ يتساءل المحامي عيسى من يحاسب المتسببين؟ هل هي دوائر الخدمات؟ أم الشرطة؟ أم المعنيون بالبيئة؟ للأسف الحقيقة إن تعدد الجهات المعنية يقابله غياب التنسيق والتنفيذ الفعلي، فكل جهة تلقي باللوم على الأخرى، ويبقى المواطن وحده في مواجهة طوفان الصوت، مؤكداً أن الحل لا يكمن فقط في سن القوانين، بل في تطبيقها الصارم ومن الضروري فرض رقابة حقيقية على مصادر الضجيج، وإطلاق حملات توعية حول مخاطره، وتخصيص قنوات فعالة لتلقي شكاوى المواطنين.

كما أن تخصيص أوقات محددة لاستخدام الأجهزة والمولدات الصاخبة، وإعادة تنظيم عمل الباعة الجوالين، سيشكل فارقاً كبيراً في جودة الحياة داخل المدينة.

مضيفاً: الضوضاء ليست مجرد صوت مزعج، بل وجه آخر من وجوه التسيب والفوضى، وإذا لم يُوضع حد لها قريباً فإن دمشق ستفقد ما تبقى من هدوئها، وربما من صحتها الجماعية.

نحو مدينة أكثر هدوءاً

للمضي في معالجة أزمة الضوضاء، يوصي الخبير البيئي سلطان درويش بضرورة سن قانون شامل للضوضاء ينظم استخدام المولدات والورش، والإعلانات الصوتية، ويحدد مستويات صوتية مقبولة لكل منطقة، وتشكيل لجان رقابية مختصة مزودة بأجهزة قياس الضوضاء، لضبط المخالفات وفرض العقوبات، إضافة لتعزيز حملات التوعية للحد من الضوضاء غير الضرورية، وتثقيف الجمهور حول مخاطر الضجيج على الصحة، وتطوير البنى التحتية الكهربائية لمنع انقطاع التيار، مما يقلل الحاجة للمولدات، مع إنشاء مساحات عامة هادئة داخل المدينة توفر متنفساً للسكان.

كلمة المحرر..

دمشق مدينة عريقة تستحق أن تسمع أنفاسها لا أن تخنق بأصوات لا تنتهي فالضوضاء ليست مجرد ضجيج يومي بل شكل من أشكال العنف الحضري، الذي لا يسلّط عليه الضوء، لكنه يترك ندوباً عميقة في الجسد والنفس. في زمن الأزمات، قد يبدو الحديث عن الصمت ترفاً، لكن في الحقيقة الهدوء حق أساسي من حقوق الإنسان وإذا كانت أصوات المدينة لا تهدأ، ومن أجل أن تكون دمشق أكثر هدوءاً فمن واجب الجهات المعنية أن تصغي لصوت الناس.. قبل أن يصير الصراخ داخلياً، وصامتاً ولا يسمع.

إن التلوث الصوتي في دمشق ليس مجرد إزعاج، بل خطر حقيقي على الصحة الجسدية والنفسية، المشكلة ليست في الأصوات فقط، بل في تجاهلنا لها، وتطبّعنا مع الصخب كجزء من حياتنا.

آخر الأخبار
المعارض الذكية لتبادل المعلومات والخبرات المهندس حسن الحموي: فضاء واسع للمشاركين تركيا: الاعتداءات الإسرائيلية تقوض مساعي إرساء الاستقرار في سوريا والمنطقة معرض دمشق الدولي .. انطلاقة وطنية بعد التحرير وتنظيم رقمي للدخول  الأمم المتحدة: مقتل الصحفيين في غزة غير مقبول ويجب تحقيق المساءلة والعدالة المعامل العلفية في حلب تحت مجهر رقابة الزراعة محمد الحلاق لـ"الثورة": ما يهمنا إظهار معرض دمشق الدولي كقوة اقتصادية جاذبة للاستثمارات  صيانة خطوط الكهرباء وإصلاح أعطال الشبكة في حمص وفد اقتصادي ألماني يبحث التعاون مع غرفة تجارة دمشق جذب الاستثمارات الزراعية.. اتحاد فلاحي حمص بمعرض دمشق الدولي وزير المالية: نرحب بالدعم الفني الأوروبي ونتطلع لزيارة وفد الأعمال الفرنسي رؤية جديدة في طرطوس لدعم الاستثمار وتوسيع آفاق التصدير  اعتماد المعيار المحاسبي الدولي IFRS 17 في قطاع التأمين الكويت: مواصلة الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاته تجاه سوريا انتهاك للقانون الدولي مسار جديد لبناء تعليم نوعي يواكب متطلبات التنمية المجتمعية الأردن: استمرار الانتهاكات الإسرائيلية تجاه سوريا تصعيد خطير مخاطر الانتهاكات الإسرائيلية تجاه سوريا والمسؤولية الدولية عن لجمها دمشق تستعد لاستقبال زوار "معرض دمشق الدولي" بأبهى حلّة وفد اقتصادي سعودي رفيع يصل دمشق.. والمملكة ضيف شرف في معرض دمشق الدولي حلب في معرض دمشق الدولي.. عودة القلب الصناعي لسوريا إلى واجهة الاقتصاد منظمة "رحمة" تؤكد دعمها للتعليم المهني في درعا