الثورة – ثناء أبو دقن:
مازالت قضية الانتحار تشكل إحدى أهم القضايا الصحية والنفسية والاجتماعية الكبرى التي تواجه المجتمعات حول العالم، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يُقدّر أن شخصاً واحداً يُنهي حياته كل 40 ثانية.
ومن أجل تسليط الضوء على هذه الأزمة الإنسانية، يتم إحياء اليوم العالمي لمنع الانتحار في 10 سبتمبر من كل عام، بهدف زيادة الوعي، وتعزيز الحوار، وتقديم الدعم النفسي للأشخاص الذين يعانون من أفكار انتحارية.
ألم لا ينتهي
وفي هذا الصدد تقول الاختصاصية في تقييم وتشخيص الامراض النفسية الدكتورة صفاء جنبلاط – حول اليوم العالمي لمنع الانتحار: إنه تذكرة انسانية للعالم أجمع بأكثر القضايا إلحاحاً.. ألا وهي قضية الانتحار، وتعتبر من أكثر الأمور إيلاماً لنا نحن المعالجين، لأن الانتحار ليس ضعفاً وليس أنانية، بل هو معاناة نفسية عميقة جداً، بل قد يكون بسبب أن الشخص لم يجد من يستمع له، ويحتويه، ويتفهم، وربما كان الخيار الوحيد في وقت من الأوقات، مشيرة إلى أن كل روح غالية، وكل روح تستحق أن تُنقذ من الموت أو الانتحار.
أسباب الانتحار
وتضيف الدكتورة جنبلاط: إن أسباب الانتحار كثيرة ومتشعبة، منها الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، أو الاضطرابات الشخصية، أو الصدمات النفسية، والإدمان أو بعض المشكلات الأسرية العميقة، أو مشكلات في العمل، وتستدرك أن العامل المشترك بين هذه الأسباب هو أن الشخص يمر بألم نفسي كبير وغير محتمل، ويشعر بالضعف تجاهه، ويعجز عن تغيير هذا العالم المحيط به، فيلجأ للانتحار للتخلص من هذه المعاناة العميقة، أو الألم الذي يشعر به.
وهنا تتساءل.. هل فكرة الانتحار تبدأ فجأة من دون أي علامات أو إشارات، هل يعقل أن شخصاً كان في الأمس يعيش بيننا، ثم فجأة ينتحر اليوم وتنتهي حياته؟، وتجيب عن سؤالها: في الحقيقة هذا الأمر نادراً ما يحدث أو لنقل أنه من المستحيل أن يكون الانتحار قراراً فجائياً، فهناك الكثير من العلامات أو المؤشرات التي تدل أن هذا الشخص كان يفكر في الانتحار، بعض هذه العلامات هو شعور المنتحر بالعزلة أو الاكتئاب، أو فقدان الأمل، أو تقلبات وتغيرات حادة في المزاج، أو أنه يردد أنه لا جدوى من الحياة، ويذكر الموت بشكل دائم، أو أن الموت راحة.
هذه بعض الإشارات التحذيرية التي تجعلنا ننتبه إلى الشخص بأنه يفكر في الانتحار أو ممكن أن يكون في طريقه للانتحار.
يسأل البعض هل الانتحار لا يقدم عليه إلا من يعاني من مرض نفسي؟ لترد عليه الدكتورة جنبلاط: بصراحة جزء من الذين انتحروا أو كان لديهم محاولات الانتحار هم أشخاص لديهم مشكلات نفسية واضطرابات شخصية حدّية فقط، في حين نجد أن ضغوطات الحياة ومشكلاتها والأزمات المتلاحقة أو محنة شديدة تعرض لها الشخص، أو الخسائر الكبيرة، أو موت شخص مقرّب جداً له، هذه عوامل قد تكون ضاغطة عليه تجعله ينتحر أو يحاول الانتحار.
محاولة للفت النظر
هل صحيح أن الشخص الذي يقول “إنه سينتحر، ولا يفعل ذلك”، فإن كلامه مجرد حكي أو أي كلام؟، وهنا تؤكد أن هذا ما نسميه بالخرافات الخطيرة المتعلقة بالانتحار، وهو إشارة وإنذار تحذيري خطير جداً، وليس كل شخص صرّح عن نيته بالانتحار ولم ينفذ كلامه، أنه لن يقدم عليه، على العكس تماماً، إن أي إفصاح أو رغبة في الموت، أو محاولة له، فيجب أن تؤخذ على محمل الجد، والعمل على منع حدوث ذلك، عن طريق تقديم المساعدة أو الدعم النفسي، ونستمع له بجديّة ومن دون أي تهاون، ونحاوره لمعرفة الأسباب الخفية وراء تصريحاته أو حتى تلميحاته ليُصار إلى معرفة المشكلة الحقيقية، وبالتالي تقديم الدعم الصحيح له.
من يفشل بالانتحار فإنه قد يعيد
وبينت أن إقدام الشخص على الانتحار وفشله، هذا يعني أنه سوف يحاول، ويعيد حتى ينهي حياته، وفشل أي شخص بأي محاولة هو مؤشر خطورة عالية لدى هذا الشخص، وأنه يفكر جدياً بالانتحار، فعلينا أن نتابعه بشكل مستمر ودقيق، ونقدم دعماً علاجياً نفسياً لهؤلاء الذين لديهم تاريخ في محاولات الانتحار، ليتخطى هذه المرحلة الصعبة.
وأضافت: من الأهمية أن نتيح للشخص أن يتكلم عن نفسه بحرية، ويجد من يستمع له بكل صدق، من دون إطلاق الأحكام المسبقة أو إسماعه عبارات، “أنت ضعيف أو قليل الإيمان أو جبان، أو يجب تساعد نفسك وأن تكون قوياً ..انظر إلى غيرك كم يعاني..”، هذه العبارات خاطئة بل يجب أن نحتويه ونستوعبه ونتفهمه، ونشعره أن ما يعانيه هو مؤلم حقاً، وأننا نقدّر معاناته، وعلى كل أسرة تجد أي شخص فيها يميل للعزلة والوحدة أو الاكتئاب، وفقدان الأمل، أو الرغبة في الموت، فأكيد هناك أمر كبير أو معاناة تضغط على الشخص، فعليها أن تعطي الأمر أهمية خاصة، وتسعى إلى أخذ المشورة من الاختصاصيين والمعالجين النفسيين.
وتؤكد الدكتورة جنبلاط أنه على الأسرة والمجتمع أن يغيّر نظرته وتعامله مع الاختصاصي والمعالج النفسي، لأنه خير معين ومرشد ومعالج لأي شخص لديه مشكلة نفسية، وهو الأجدر والأقدر على تقديم الدعم والمساعدة لحلها، فلا ينحرج أحد من زيارته وطلب مساعدته، وعلى جميع الجهات الرسمية والأهلية نشر ثقافة الصحة النفسية وأنها تتوازى مع الصحة الجسدية.
الرحيل القاتل
الشاب “خ. س” أقدم على الانتحار بتاريخ 30/5/2025، وهو طالب بكالوريا، عُرف بسمعته وأخلاقه الجيدة بين زملائه، استغل غياب أسرته عن المنزل وشنق نفسه نتيجة فشل علاقة عاطفية في هذا السن المبكر.
أما “ز.ا” فقد تناولت حبوب القلب الخاصة بجدّها وبكمية كبيرة أودت بحياتها نتيجة رسوبها بصف التاسع لهذا العام.
قرروا نهاية حياتهم تحت ضغط ظرف طارئ، ورحلوا بصمت، تاركين خلفهم ألماً ومأساة لن يندمل جرحها مع مرور الأيام.
اليوم العالمي لمنع الانتحار.. ليس مجرد يوم رمزي، بل هو نداء إنساني للتكاتف والعمل المشترك لحماية الأرواح من الخطر الصامت، كل إنسان يمر بظروف صعبة، لكن بدعم المجتمع والأسرة والمؤسسات، يمكننا جميعاً أن نساهم في بناء عالم أكثر رحمة وتفهماً.