من ” بوق للسلطة” إلى ” صوت للمجتمع”.. الرئيس الشرع يفتح أبواب الحرية للإعلام.. فهل نمتلك جناحين صالحَين للتحليق ؟!
الثورة – تحقيق هلال عون:
يبدو أن كلامه يطرح تحدياً وجودياً للإعلام الرسمي، لجهة كيفية، أو إمكانية التحوّل من “بوق للسلطة” إلى “صوت للمجتمع”؟.. نعم، هكذا أوحت تصريحات الرئيس أحمد الشرع الأخيرة في الحوار الذي أجرته معه قناة الإخبارية الفضائية يوم الجمعة الماضي.
يرى المتابع أن تصريحات الرئيس الشرع ترسم ملامح عهد إعلامي جديد، أكثر انفتاحاً وجرأة، إلا أنها تضع الإعلام الرسمي أمام اختبار حقيقي في المصداقية والاحتراف.
في هذا التحقيق الصحفي نعرض بعضاً مما قاله الرئيس الشرع عن الإعلام، ونستعرض آراء عدد من المختصين والمهتمين بالشأن الإعلامي والاجتماعي، حول كيفية تعزيز سقف الحرية، والسبل التي تجعل من الإعلام الرسمي مؤسسة قادرة على الإقناع والتأثير في العهد الجديد.
ملامح من رؤيته
مما قاله الرئيس الشرع عن دور الإعلام في العهد الجديد:
– العالم تجاوز أي فكرة لحصار الإعلام في بوتقة صغيرة، خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
– سقف الحرية واسع في سوريا، والحالة الصحية والسليمة أن يكون هناك أصوات ناقدة.
– أقرأ من ينتقدني، والمهم أن يكون النقد صحيحاً ومنبّهاً، حتى لو كان جارحاً.
– بعض الأحيان النقد يدل على أن الجمهور لا يفهم سياسات الدولة، فتحتاج الدولة لتوضيح هذه السياسات.
– نحن لسنا في زمن يقرر فيه الرئيس كل شيء، ولا أريد لسوريا أن تكون هكذا، ولا أعتقد أن الشعب يقبل بهذا الأمر.
– أعتقد أن الحالة الصحية أن تكون هناك حرية واسعة للإعلام وأن تكون الضوابط قليلة.
الإعلام بين السلطة والجمهور
يقول الشاعر عابد عنقا: “لطالما كان الإعلام الرسمي في سوريا لسان حال السلطة، وليس لسان حال الناس، وفي المرحلة القادمة، لن تكون هناك جدوى من إعلام يُعيد إنتاج الخطاب نفسه، لذلك فالمطلوب هو التحول إلى إعلام يضع المواطن في مركز اهتمامه، وليس السلطة”.
ويضيف: “فسحة الحرية المتاحة الآن، يجب أن تُستثمر بذكاء، إذ يمكن للإعلام الرسمي أن يفتح نوافذ للنقاش والحوار، وأن يسمح بطرح قضايا الفساد، الخدمات، التعليم، الصحة، وأن يعكس أصوات الناس بدل أن يكتفي بنقل أخبار المسؤولين”.
صحفي يعمل في صحيفة رسمية، طلب عدم ذكر اسمه، قال: “المؤسسة الإعلامية ليست مجرد مبنى أو معدات، هي عقلية محررين ورؤساء تحرير، وحين يفكر الصحفي أن وظيفته إرضاء المسؤول بدلاً من إرضاء القارئ، يسقط الإعلام”.
ويتابع: “نحن جيل من الصحفيين، كنا ومازلنا نبحث عن مساحة نكتب فيها بصدق، لكن حين أجد مقالي يُحذف منه ما هو جوهري، لأن المسؤول قد ينزعج، أفقد الحافز على العطاء، وإذا أردنا إعلاماً مقنعاً، يجب أن تتغير العقلية التحريرية، فالحرية ليست شعاراً، بل ممارسة يومية”.
من زاوية أخرى، يرى المحامي “أسامة. م” أن الإعلام الرسمي، إذا أراد أن يكون معبّراً عن آمال وآلام الشعب، فعليه أن ينصت إلى الناس الذين فقدوا الثقة بالإعلام، فالمواطن السوري يستقي معلوماته من مواقع التواصل، أو من قنوات أجنبية، لأنه لا يثق أن إعلامه سينقل له الحقيقة، ولاستعادة هذه الثقة، على الإعلام الرسمي أن يقترب من الناس ببرامج واقعية، كالحلقات الحوارية المفتوحة، والتحقيقات الميدانية، والمساحة المقبولة للرأي الآخر.
ويشير إلى أن الحرية لا تُمنح فقط بالقوانين، بل تمارس بالمبادرات، فقد لا يسمح لك القانون بانتقاد كل شيء، لكن بإمكانك أن تطرح قضايا خدمية بجرأة، وأن تنقل صوت الناس من القرى النائية.. هذا في حد ذاته خطوة نحو إعلام حر.
إعادة هيكلة
مسؤول إعلامي سابق، طلب عدم ذكر اسمه، يرى أن الفرصة لا تزال سانحة، رغم أن الإعلام الرسمي تأخر كثيراً، لكن من الأفضل أن يستيقظ متأخراً على أن يظل نائماً، اليوم هناك فسحة، ولو ضيقة، لمراجعة التجربة، والمطلوب ليس فقط تحرير الخطاب، بل إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية نفسها، من التمويل إلى الإدارة.
ويتابع: الجمهور لم يعد أسير قناة واحدة أو صحيفة واحدة، فالمنافسة شديدة، وإذا لم يتغير الإعلام الرسمي، فسوف يختفي من المشهد ببساطة، لأن الناس لن تنتظره.
“سلمى. ب”، موظفة، ترى أن حرية التعبير لا قيمة لها إذا لم تُترجم إلى مهنية، فالمشكلة أن الإعلام السوري انشغل سنوات بالخطاب الدعائي، فأهمل أدوات الصحافة، كالتحقق من المعلومات، والتوازن بعرض أكثر من وجهة نظر.
المدرِّس علي إبراهيم، وهو قارئ قديم للصحف الرسمية، يعبّر عن وجهة نظر بسيطة، لكنها معبّرة، بقوله: كنت أشتري صحيفة الثورة كل يوم، لكنني قاطعتها منذ سنوات طويلة، فأنا اليوم أريد أن أقرأ عن مشكلتي، عن راتبي الذي لا يكفي، عن المستشفى الذي لا يستقبلني، عن ابني الذي لا يجد عملاً.. إذا لم يتحدث الإعلام عني، لماذا أتابعه”؟
من التبعية إلى الاستقلال
كيف ينجح الإعلام الرسمي في ظل الحرية الجديدة؟.
“لنجاحه، لا يكفي أن يُمنح هامش حرية، بل يجب أن يتحول إلى منصة حقيقية للتعبير عن الناس، لا مجرد ناقل لقرارات السلطة”.
ومن أهم شروط النجاح- بحسب عضو المكتب السياسي لحزب التنمية الوطني، وائل الحسن، التحول من التبعية إلى الاستقلال المهني، والتحرر من الخطاب التبريري أو التمجيدي، وبناء غرف تحرير مستقلة في القرار، مع حماية قانونية للصحفيين، والاقتراب من الناس لا من السلطة، وتغطية هموم المواطن اليومية كالخدمات والعدالة والتعليم، ومواجهة الفساد، وفتح المجال للرأي والرأي الآخر، حتى لو كان ناقداً للسياسات الرسمية.
ويتابع الحسن: يجب أن يتبنى الإعلام صحافة الحلول، ولا يكتفي بعرض المشكلة، بل يجب أن يطرح البدائل.
الاحترافية والشفافية
ويرى أن على الإعلام، كي يواكب المرحلة، أن يعمل على تدريب الكوادر على الصحافة الاستقصائية، والتحقق من دقة المعلومات، ونشر مصادر الأخبار بوضوح، وتجنب التعتيم أو التوجيه، واستخدام لغة إعلامية حديثة، بعيدة عن التنميق والتضخيم والحشو.
ودعا الحسن للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، والتفاعل مع الجمهور عبر المنصات الرقمية، لا الاكتفاء بالبث التقليدي، والرد على الانتقادات، وتوضيح السياسات بلغة مبسطة، ودعم صحافة المواطن، وفتح المجال للمبادرات الإعلامية الشبابية. وبالعموم، حتى يُقنع الإعلام الرسمي الجمهور يجب أن يكون معبراً عن تطلعاته.
وتوقف عند قول الرئيس الشرع: “أقرأ من ينتقدني، والمهم أن يكون النقد صحيحاً ومنبهاً، حتى لو كان جارحاً”.
ورأى أن هذه دعوة صريحة لتقبل النقد، وتحتاج ترجمة عملية من وسائل الإعلام الرسمية، كنشر تقارير نقدية عن أداء المؤسسات الحكومية من دون خوف أو تردد، واستضافة أصوات مستقلة في البرامج الحوارية، بما في ذلك المعارضة الفكرية.
ولفت إلى أنه في قول الرئيس الشرع أيضاً دعوة للاعتراف بالأخطاء في العمل الحكومي، وممارسة النقد الذاتي، مبيناً أن تعزيز الإعلام الرسمي ورفع سقف الحرية يتطلبان تقليص الرقابة المسبقة على المحتوى، وإلغاء التعليمات التحريرية غير المكتوبة، وإصدار قانون إعلام جديد يضمن حرية التعبير ويحدد مسؤوليات الصحفيين بوضوح.
وشدد على أن المطلوب من الإعلام الرسمي ليكون مقنعاً هو المصداقية التي تتجلى بنشر الحقائق من دون تزييف لاستعادة ثقة الجمهور، والجرأة في طرح ملفات حساسة بشفافية لمواكبة سقف الحرية الجديد، وتمثيل مختلف الآراء والتيارات ليكون الإعلام صوتاً للجميع.
تلميع السلطة
الباحث والكاتب وصاحب مبادرة “مأسسة المجتمع القادر” فراس حداد، تساءل: لماذا لم يكن الإعلام الرسمي في سوريا أيام نظام الاستبداد متابَعاً، ولماذا لم يملك مصداقية؟ وكان يُنظر إليه على أنه بوق للسلطة، ومنفصل عن الواقع، ويكرس الانفصال المصلحي بين السلطة والجمهور.
وأجاب عن تساؤله، بالقول: كان منصة لتلميع السلطة التنفيذية، وليس ناقداً لأخطائها وفسادها، فهو لم يكن يوماً منصة تهتم بعرض مشكلات وهموم وأوجاع المجتمع للتعاون والتكامل في إنتاج الحلول.
ويوضح حداد: هذا هو السقوط الأول والأكبر للإعلام الرسمي، وتلقائياً يؤدي ذلك لانفصال مصلحي بين الشعب والسلطة وعدم ثقة بكل المؤسسات وأدائها، من خلال حكم قطعي للشعب بغياب المصداقية، وبالتالي سيكون في نظره وسيلة التمكين للسلطة وتلميع أخطائها والدفاع عنها.
وأضاف: أعتقد أن الشرط اللازم، الأول لبناء إعلام رسمي ناجح هو تحديد الهدف، أن يكون الإعلام الرسمي منصة للشعب تترجم وتتمم عمل الحكومة في معالجة مشكلات المجتمع، والتباحث في الوصول لأفضل الحلول بشفافية، وهو أيضاً وسيلة لعرض أداء الحكومة ومناقشته على الملأ، وعرض التحديات المحلية والخارجية للتشاركية في إنتاج الحلول، وهذا الهدف يجسد واقعياً وتطبيقاً إعلان السلطة أنها تقدم نفسها خادماً للشعب.
ويتابع: هذه المقدمات في بناء الأهداف ستؤدي تلقائياً إلى جعل الإعلام الرسمي بوابة إعلام الجمهور، ومعبراً عن رؤيته ومصالحه، وليس فقط متابعاً من قبله، بل الجمهور نفسه مدافعاً عن الإعلام الرسمي، ويسقط أهداف الأعداء بسهولة.
صناعة الثقة
وأضاف حداد: بالنسبة لآليات تحقيق الهدف، فالنية لا تكفي، إن لم نمتلك الآلية، خصوصاً أن هوامش الثقة بين الجمهور والإعلام الرسمي معدومة، وهذا ينسحب على كل الدول التي تسخّر مؤسساتها الإعلامية لخدمة السلطة، ويختفي في عمل مؤسساتها أي خدمة للشعب.
أعتقد أن أهم آلية منتجة لبناء الثقة بين الإعلام الرسمي والشعب: أولاً: أن يتم تنصيب الإعلام الرسمي كإحدى أدوات أجهزة الرقابة المنتجة، التي تتميز باستقلاليتها عن السلطة التنفيذية.
وتكون هذه الأداة الرقابية حازمة ومنحازة تماماً لمصلحة الشعب ضدّ أي تقصير أو خلل في السلطة التنفيذية، وأن تتمتع بالحصانة الكافية من استهداف السلطة التنفيذية، وأن تكون موضوعية وتضع يدها على الخلل مباشرة، وتقدم الحل- إن أمكن.
ثانياً: أن يكون البرنامج الإعلامي برعاية فريق إعلامي متخصص، يضمن، ليس فقط الكفاءة في طرح المشكلات واستنباط الحلول، بل أيضاً يمنع الإعلامي من الانزياح عن الهدف نتيجة القصور أو النفعية أو المزاجية أو غير ذلك.
ثالثاً: رسم الخطة الإعلامية لبناء الرسالة الإعلامية التي تشمل المساهمة في بناء المنظومة القيمية، والوعي الجمعي، والتكامل بين السلطة والمجتمع في تحقيق هدف السلطة في خدمة المجتمع.
رابعاً: التأهيل لبناء الكوادر المهنية الكفوءة المؤمنة بالرسالة الإعلامية الوطنية، المسخّرة لخدمة المجتمع، والرقيبة على السلطة، واستقطاب الكفاءات المؤمنة برسالتها الوطنية والقيمية، البعيدة عن الاختراق من منظومة الفساد أو أعداء الشعب والأمة، سواء كانوا محليين أو خارجيين.
خارطة طريق من خلال الآراء السابقة
يمكن رسم خارطة طريق أولية..
أولاً: تحرير العقلية، والانتقال من إعلام السلطة إلى إعلام المجتمع.
ثانياً: المصداقية، من خلال نشر الخبر كما هو، بلا تزيين أو إنكار.
ثالثاً: إتاحة مساحة للرأي الآخر، حتى ولو ضمن حدود.
رابعاً: الاقتراب من الناس، من خلال تحقيقات ميدانية عن قضايا الخدمات والفساد والغلاء.
خامساً: التطوير المهني، من خلال تدريب الكوادر على أساليب الصحافة الحديثة.
سادساً: إعادة الهيكلة، وخلق استقلالية إدارية ومالية تسمح بمساحة أوسع للحرية.