الثورة – سنان سوادي:
على الرغم من تراجع الصناعات التقليدية التراثية أمام الصناعات الحديثة، وارتفاع تكاليف مستلزمات إنتاجها، واستخدام الآلات الهيدروليكية والأفران الكهربائية، لا يزال الحرفي نزار حسن منذ ثلاثين عاماً يمارس مهنة صناعة الفخار التي ورثها عن أجداده بطريقة يدوية، ففي ورشته الصغيرة في قرية “بريعين” بريف جبلة، يعمل حسن على صناعة أباريق الفخار والمقالي و”ركوات” القهوة بأشكال وأحجام مختلفة.
خصائص صحية
يبين حسن لـ”الثورة”.. عملُنا بالفخار التراثي الناري يدوي، ويمر بمراحل عدة، بدءاً من تحضير الترب الفخارية وإضافة حجر ناري يشبه حجر العقيق، كونه يتحمل حرارة عالية، وله خصائص صحية للإنسان من حيث التعقيم وقتل جميع أنواع البكتيريا والميكروبات الضارة أثناء طهو الطعام، ثم يشوى من المساء حتى الصباح كي يسهُل تكسيره وطحنه ونخله.
ويضيف: بعد تجهيز جميع المواد نقوم بخلطها بنسب وتنقيتها من المواد العضوية والشوائب واستخراج الزبد الفخاري، ثم تعجن وتخمّر وتحضّر للتصنيع، وبعد تصنيع القطعة يتم “تقشيطها” بنزع الزوائد وتنعيمها وتنشيفها بمكان معزول عن الشمس والرطوبة لمدة 15 يوماً حتى تنتقل لمرحلة الشوي.
وتمر طريقة الشوي بمرحلة التخمير في التنور بدرجة حرارة تصاعدية من المئة درجة وما فوق حتى تنشف بشكل كلي لمدة ساعة إلى ساعتين، ثم نقوم بزيادة الحرارة على دفعات حتى تصل إلى 600 و700 درجة وما فوق حتى تصبح قطعة جمر، وبعد ساعة ترفع خارج بيت النار وتكون عملية الشوي قد انتهت لتصبح جاهزة للتداول وتستغرق مدة الشوي حوالي خمس أو ست ساعات، ويتراوح سعر القطعة ما بين 50 إلى 150 ألف ليرة، وذلك حسب نوعها وحجمها.
افتقاد للأدوات الحديثة
أشار حسن إلى افتقاد أصحاب المهنة بشكل عام للأدوات الحديثة بالعمل والتصنيع، مثل فرن حراري وعجّانة وقرص لف كهربائي لتسريع الإنتاج، بالإضافة للمعاناة في الحصول على الحطب وأجور جلب الترب والحجر الناري.
وأمل من الجهات المعنية توفير الدعم المالي لأصحاب المهنة عن طريق تقديم قروض ميسرة لشراء المعدات الحديثة للتصنيع، ما ينعكس إيجاباً على جودة المنتج وكمية الإنتاج، وإقامة معارض تراثية تضم كل منتجات المهن التي ترتبط بتاريخنا وتعبر عن أصالتنا، وهو ما يساهم في تصريف المنتجات التراثية، و الفخار السوري مميز محلياً وعالمياً ويتميز بالجودة والأصالة والعراقة.
ونوه حسن بوجود فخار تجاري سيىء الصنع ويتكسر بسرعة، ما ينعكس سلباً على سمعة الفخار التراثي السوري.
بدوره، أكد الحرفي مصطفى عبد الله حمادة من “عرب الملك” في جبلة أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها أصحاب المهنة هي قلة توفر المواد الأولية وارتفاع أسعارها وأسعار أجور النقل.
وصعوبة تصريف الإنتاج بسبب إقبال الناس على شراء المنتجات البلاستيكية والمعدنية.
الساحل اشتهر بها
من جهته، أوضح الباحث في التراث حيدر نعيسة، أن الساحل السوري عبر تاريخه اشتهر بصناعة الفخار، حيث عثر في بلدة “الفاخورة” بالقرداحة على بقايا منشأة لصناعة الفخار، ويوجد في قرية “برج القصب” شمال اللاذقية منشأة لصناعة الأواني الفخارية، تصنع الفخار يدوياً كما كان يصنع قبل آلاف السنين.
وأكد نعيسة على أهمية وجود سوق خاص لعرض منتجات المهن اليدوية بشكل عام، ومنها الفخارية للحفاظ على هذه المهنة من الاندثار.
ينبض بالحياة
فيما أشار مدير موقع آثار أوغاريت الدكتور غسان القيم إلى أن مهنة الفخار حظيت باهتمام كبير عند الحرفيين في مدينة أوغاريت الأثرية، وذلك قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وكانوا يبدعون أجمل الأواني والقدور، ولم تكن مهنة صناعة الفخار مجرّد حرفة تقليدية، بل كانت فناً ينبض بالحياة، ينقله الآباء إلى الأبناء كما تُورّث القصص والأساطير.
وكان الفخّار في أوغاريت أكثر من مجرد قدور وأوانٍ تُستخدم لحفظ الماء أو الطهو أو تخزين الحبوب.
كانت القطع الفخارية لوحات ناطقة، تروي حكايات الحياة اليومية، وتوثّق الطقوس الدينية، وتُظهر الذوق الفني الرفيع لأهل المدينة.
استخدم الحرفيون دولاب الفخار المصنوع من الخشب والحجر، يدور ببطء تحت أقدامهم بينما تراقصت أيديهم بخفة فوق الطين الرطب، تصنع منه أشكالاً متناغمة بدقة هندسية لا تخطئها العين.
وأضاف: كان هناك نوع خاص من الطين يُجلب من ضفاف الأنهار القريبة، يُخلط بالماء بعناية، ويُصفّى من الشوائب، ثم يُترك ليرتاح، كما لو أن الحرفيين يمنحونه فرصة ليستعد لرحلة التحوّل.
وبعد التشكيل، كانت القطع تُعرض تحت الشمس لتجف، قبل أن تُوضع في الأفران الحجرية، حيث تتحد النيران والإرادة لتمنح الطين صلابته الخالدة.
ويُقال: إن بعض الفخاريين في أوغاريت كانوا يضيفون لمسات فنية على الأواني بعد حرقها، ينقشون عليها رموزاً كتابية بلغة أوغاريت المسمارية، أو يزينونها بزخارف نباتية وهندسية، تعبّر عن ذوق رفيع ووعي فني متقدّم.
لم تكن هذه الزينة للزهو فحسب، بل كانت أحياناً إشارات إلى محتوى الوعاء أو الغرض منه، أو حتى إلى مالكه.
لقد صارت هذه المهنة رمزاً للحضارة، شاهداً على حياة أهل مدينة أوغاريت وشاهداً على تحولات التاريخ حتى مع مرور الأزمان، تصنع أدواتها بنفس الطريقة، ولا تزال حتى الآن تسير بين الأجيال كوصية من القدماء، ترسم علاقة الإنسان بالأرض والنار والطعام.