الثورة -هنادة سمير:
بعد عقود من الغموض الإداري وأعوام الحرب الطويلة، باتت كلمة “الشفافية” في سوريا ما بعد التحرير حديث الساعة، ومفتاحاً أساسياً لبناء دولة مختلفة تقوم على الثقة والوضوح والمساءلة، وإذا كان السوريون قد ورثوا عن سنوات النظام السابق انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية بسبب غياب الإفصاح وتفشي المحسوبية، فإنهم اليوم ينظرون إلى الشفافية باعتبارها المدخل الضروري لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.

نظرة دولية
يشير تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024 إلى أن الدول الخارجة من النزاعات غالباً ما تواجه تحديات كبيرة في مكافحة الفساد وإرساء الشفافية، لكنه أكد في الوقت نفسه أن الالتزام بالوضوح والإفصاح هو الطريق الأسرع لجذب الاستثمارات واستعادة ثقة المجتمع، و سوريا ليست استثناءً من هذه القاعدة، بل هي مثال حيّ على بلد يحتاج بشدة إلى إعادة بناء مؤسساته على أسس شفافة.
الباحث في الإدارة العامة الدكتور سعيد حاج حسين في حديثه لصحيفة الثورة بين أن الشفافية هي الأساس الذي تبنى عليه الدول الحديثة، مضيفا: حين نتحدث عنها نعني وضوح المعلومات، وسهولة الوصول إليها، وإخضاع القرارات للمساءلة. ويشير إلى أن التجربة السورية قبل التحرير كانت على النقيض تماماً: حيث كانت الموازنات تعتمد في غرف مغلقة، والمناقصات تمنح لأصحاب الولاءات، والمواطن لا يعرف شيئاً عن مصير الأموال العامة، هذا الغياب الممنهج للوضوح جعل الفساد قاعدة، وحوّل السرية إلى أداة للسيطرة. وفق رأي الدكتور حاج حسين فإن سوريا اليوم لم تعد قادرة على إعادة إنتاج تلك المعادلة القديمة، فالمجتمع أكثر وعياً، والظروف الاقتصادية والسياسية تفرض معايير مختلفة، وأصبحت القاعدة الجديدة أن “المعلومة حق”، وأن حجبها يحتاج إلى مبرر قانوني استثنائي، ويؤكد أن نجاح عملية إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات لن يتحقق من دون بنية شفافة تكفل وضوح الأرقام والإجراءات.
تمسُّ تفاصيل الحياة
لعلّ ما يميز المرحلة الحالية أن الشفافية لم تعد مطلب النخب فقط، بل أصبحت قضية يومية يعيشها المواطن في تفاصيل حياته، يقول أحمد درويش وهو موظف في إحدى المصالح الحكومية: كنا نسمع عن مشاريع ضخمة وأرقام كبيرة، لكننا لا نرى شيئاً على أرض الواقع ولا نعلم كيف تدار مؤسساتنا ولا من يحاسب المقصرين، أما اليوم فنريد أن تكون الأرقام متاحة، وأن نرى المحاسبة علناً، لأن الثقة لا تُبنى بالأقوال فقط. من جانبها، تربط مها الأحمد، صاحبة متجر صغير في دمشق، الشفافية بالمعاملات اليومية البسيطة تقول: في الماضي كنت أتفاجأ برسوم غير معلنة عند مراجعة أي دائرة، أو يحتاج الأمر إلى دفع مبالغ جانبية لإنجاز معاملة، لكن أرى أن الشفافية تتطلب أن نعرف مسبقاً ما لنا وما علينا، وأن نتعامل مع قوانين واضحة لا تفسح مجالاً للابتزاز.
ويؤكد الدكتور حاج حسين أن الشفافية ليست مجرد تقارير مالية تصدرها الجهات الحكومية، بل هي ثقافة يلمسها كل مواطن عندما لا يصطدم برسوم أو فواتير إضافية، ويشعر بها الموظف كذلك حين تعلن معايير التوظيف والترقية بوضوح، ويدركها المستثمر حين يجد أن المناقصات مفتوحة للجميع وليست حكراً على قلة متنفذة.
التحوّل من الصناديق السوداء إلى الانفتاح
ويرى أن المرحلة المقبلة تفرض التحول في المؤسسات الحكومية من “صناديق سوداء” إلى أجهزة مفتوحة أمام الرأي العام. من خلال نشر الموازنات السنوية، الإعلان عن العقود بشكل تنافسي، وتوفير منصات شكاوى إلكترونية تمكن المواطن من متابعة مسار شكواه، مشدداً على أهمية ذلك وضرورته لإعادة بناء الثقة.
فعندما يرى المواطن أن صوته مسموع وأن أمواله تدار بشفافية، يصبح شريكاً حقيقياً في إعادة بناء دولته.
ويتابع د.حاج حسين: القطاع الخاص معني بالشفافية بنفس القدر وربما أكثر، لأنه يسعى إلى جذب رأس المال المحلي والأجنبي، موضحاً أنه: في الماضي، كانت بعض الشركات الكبرى تعمل تحت حماية سياسية، تتحرك بعيداً عن أي رقابة وتحتكر السوق أما اليوم فنجاح أي شركة مرتبط بمدى وضوحها أمام المساهمين، وبقدرتها على الإفصاح المالي، وبالتزامها بمعايير الحوكمة بحيث لا يشعر المستثمر أنه يطرق باباً مظلماً، بل يبحث عن بيئة مكشوفة وواضحة.
ليست سياسة مؤقتة
ويشير إلى أن ثمار الشفافية لا تقتصر على محاربة الفساد فحسب، بل تتعداها إلى تعزيز الكفاءة وجذب الاستثمارات وترسيخ العدالة، فعندما تكون الأرقام واضحة، تتراجع فرص التلاعب، وحين يعرف الجميع من المسؤول عن القرار، تصبح المساءلة ممكنة وبهذا المعنى تصبح الشفافية ليست سياسة مؤقتة، بل بنية تحتية للثقة وهي استثمار أولي لا يقل أهمية عن بناء الطرق والمصانع.
المقارنة بين الماضي والحاضر، كما يوضح الباحث د.حاج حسين تظهر حجم التحول المطلوب في عهد النظام السابق حيث كانت السرية هي الأصل، والإفصاح هو الاستثناء، أما في سوريا الجديدة فيجب أن يصبح الوضوح هو القاعدة، وحجب المعلومة، الاستثناء الذي تبرره أسباب قانونية محدودة.
وهذا ما يشكل الفارق الجوهري بين إدارة تعيد إنتاج الفساد، وأخرى تبني على الثقة.
ويختم الدكتور حاج حسين حديثه بالقول: تبقى الشفافية في سوريا بعد التحرير رهاناً لا غنى عنه، فالمجتمع الذي خرج من الحرب مثقلاً بالجراح يبحث عن ضمانات تمنع تكرار الماضي، والاقتصاد الذي يحتاج إلى استثمارات ضخمة لن ينهض من دون وضوح، والدولة التي تسعى إلى تثبيت استقرارها لن تنجح من دون ثقة مواطنيها.
ويضيف: علينا أن نجعل الشفافية جزءاً من ثقافتنا اليومية، لاشعاراً موسمياً إذا أردنا أن نمنع عودة ممارسات الماضي، وأن نعيد بناء وطننا على أسس صحيحة، فالمواطن الذي يعرف أين تذهب أمواله، والمستثمر الذي يطمئن لعدالة السوق، والموظف الذي يثق بعدالة التوظيف، جميعهم يضعون لبنة في بناء سوريا الجديدة ومن دون الشفافية، كل إصلاح يبقى شكلياً، ومعها فقط يصبح المستقبل أكثر أمناً وعدلا.