الثورة – تحقيق حسان كنجو:
تحوّلت مسألة إيجارات المنازل في سوريا ومدينة حلب بشكل خاص، لمعضلة كبيرة، أعاقت استقرار آلاف من السوريين، من القاطنين في الداخل السوري، أو العائدين من دول المهجر على حد سواء، إذ أدى الارتفاع الجنوني في أسعار المنازل المعروضة للإيجار داخل مدينة حلب لعزوف كثير من السوريين عن السكن فيها، ولاسيما أنه تزامن مع بنية تحتية متهالكة وفقدان شبه تام للخدمات الأساسية كالماء والكهرباء.
منذ الثامن من كانون الأول الماضي زاد الطلب على المنازل بشكل كبير، خاصة في المناطق التي كان يسيطر عليها النظام البائد، وعلى رأسها حلب ودمشق، إذ أدت زيادة الطلب لفرض واقع من الاستغلال، دفع أصحاب المنازل لرفع سقف الإيجارات وجعله مضروباً بأضعاف مضاعفة، مع شروط لا تستطيع غالبية فئات الشعب السوري توفيرها.
3000 دولار كحد أدنى
“طلبوا أضعاف ما أملك من أجل استئجار منزل”، يقول منذر حاج محمود أبو إبراهيم، العائد من تركيا إلى حلب حديثاً، مبيّناً أنه أراد استئجار منزل في القسم الغربي من مدينة حلب لكونه أفضل حالاً من الشرقي من ناحية الخدمات، إلا أنه اصطدم بواقع أسعار فاحشة لا يرحم. ووفقاً لـ”أبو إبراهيم”، فقد طلب منه صاحب المنزل مبلغ 3500 دولار سنوياً، أي 290 دولاراً أميركياً شهرياً، من أجل تأجير منزل في حي المشارقة، لافتاً إلى أن المسألة لم تتوقف هنا، بل زاد عليها مبلغ 300 دولار “عمولة” للمكتب العقاري، مؤكداً أن المنازل في هذا الحي “بوضعه المتوسط” لا تقل عن 3000 دولار سنوياً. الوضع في القسم الشرقي من حلب لا يختلف كثيراً عن قسمها الغربي، فرغم ما تعرضت له الأحياء من قصف وتدمير وتهجير، لم يستثنها من لائحة غلاء الإيجارات.
ويروي محمد ملا، وهو أحد الذين عادوا إلى مدينة حلب إبان تحريرها: “عدت وكلي أمل أن أقطن في مدينتي، حيث كبرت ورسمت ذكرياتي، لكني صُدمت بواقع معيشي قاسٍ جداً، تخيل أن تُقدم على استئجار منزل متهالك في حي الفردوس (المعدوم خدمياً) تقريباً، فتتفاجأ أن أجاره السنوي هو 1800 دولار أميركي، أي 150 دولاراً شهرياً، يُضاف إليها 150 دولاراً عمولة للمكتب العقاري!
يؤكد محمد، أن أسعار الإيجارات في حلب الشرقية، لا تتناسب أبداً مع وضع المنازل هناك، فأي منزل يتم استئجاره يتطلب صيانة سريعة تقع على عاتق المستأجر، وقد تصل تكاليف الصيانة إلى 500 دولار أمريكي، وفي أحسن الأحوال يتخلى صاحب المنزل عن إيجار شهر للمستأجر لكن ماذا عن الجهد والزمن المستغرق؟
ليست حلب وحدها
على الرغم من أن الحديث عن الإيجارات في محافظة حلب، يتمحور حول مدينة حلب خاصةً، إلا أن ريفها الشمالي، بل وأرياف إدلب ليست أفضل حالاً، لقد خلقت مسألة (الهروب من الإيجارات الغالية داخل حلب المدينة)، أثراً سلبياً أدى لارتفاع أسعار الإيجارات في ريف حلب الشمالي، خاصة في المدن المخدّمة بالكهرباء والماء والاتصالات كـ “اعزاز” على سبيل المثال. “في اعزاز البعيدة نحو 50 كيلومتراً عن مركز المدينة، لا تجد منزلاً بمواصفات جيدة بأقل من 150 دولاراً أميركياً شهرياً”!
يقول سلامة اليوسف العائد من تركيا: إن المستأجرين المحليين باتوا يتهمون “العائدين من تركيا” بالمساهمة في رفع الإيجارات. ويضيف: “ما جرى عملياً، هو استغلال أصحاب المنازل في اعزاز للعائدين من تركيا، إذ ارتفع إيجار المنزل (كسوة جيدة) من 80 دولاراً شهرياً إلى 130 دولاراً، أما المنزل (كسوة ممتازة)، فقد ارتفع من 100 دولار شهرياً إلى 200 أو 250 دولاراً”، معتبراً أن الحديث حول مساهمة العائدين برفع الإيجارات لا صحة له.
سرمدا والدانا.. باريس إدلب
لم يقتصر الغلاء الفاحش للإيجارات على حلب وريفها فقط، بل امتد ليشمل الكثير من المناطق في إدلب وريفها، إذ ارتفعت إيجارات المنازل في إدلب المدينة، ومدن سرمدا، والدانا، بمعدل الضعف تقريباً، ولنفس الأسباب المتعلقة بزيادة الطلب واستغلال أصحاب المنازل حاجة الناس للاستقرار. وبحسب شهادة سكان المنطقة، كان إيجار أفضل منزل وسط مدينة الدانا بريف إدلب قبيل التحرير 75 دولاراً، ليرتفع بعد التحرير وفتح الطرقات أمام العائدين من دول الجوار، والقاطنين في المحافظات الأخرى إلى 250 دولاراً شهرياً، ولاسيما في ظل حركة البيع التي تشهدها المنطقة، والتي باتت منطقة مفضلة لدى كثيرين، بسبب تخديمها بالبنية التحتية من ماء وكهرباء واتصالات ومواصلات.
مسؤولية
“دائماً ما يُلام أصحاب المكاتب العقارية، مع العلم أنه لا علاقة لنا بالموضوع”، يقول أبو فريد- صاحب مكتب عقاري في مدينة حلب: إن صاحب المكتب دائماً (في بوز المدفع)، ودائماً ما يتعرض للانتقادات من صاحب المنزل والمستأجر على حد سواء، ولاسيما عند حدوث أي مشكلة بين الطرفين.
ويؤكد أبو فريد أن مهمة المكتب العقاري، من المفترض أن تنتهي بمجرد الاتفاق وتوقيع العقد، ولكن ما يحدث هو أن المستأجر يُحمّل صاحب المكتب مسؤولية أي خلل يواجهه في المنزل، كما أن صاحب المنزل يحمّل صاحب المكتب، مسؤولية أي تصرف يصدر عن المستأجر بدوره مؤيد حاج خليل، وهو صاحب مكتب عقاري في مدينة الدانا، يرى أن أسعار الإيجارات ستنخفض، ولكن بشكل تدريجي وطفيف، معتبراً أن انخفاض أعداد العائدين من تركيا مع افتتاح المدارس، أدى بشكل أو بآخر لانخفاض الطلب على المنازل سواءً كانت للبيع أو الإيجار، وهو ما أدى لانخفاض الأسعار.
واعتبر أن أحد أهم الأسباب التي أدّت للارتفاع، هو تسابق الناس لاستئجار منزل، غير آبهين بالأسعار التي يضعها أصحاب العقارات، وهو ما ولّد فكرة لدى أصحاب المنازل تتلخص بـ (منزلي يستحق ثمناً أفضل- أو يمكن تأجيره بمبلغ أكبر).
مشكلات أخرى
ومن المشكلات الأخرى التي ولدتها مشكلة غلاء الإيجارات، هي لجوء المدنيين للعيش في قرى بعيدة ونائية هرباً من الغلاء، خاصة في ظلّ وضع معيشي واقتصادي صعب تعيشه الشريحة الأكبر من المجتمع السوري، إذ باتت القرى النائية في نواحي اعزاز، وسرمدا، والدانا، مقصداً لمئات المدنيين -عاملين عاديين، أو موظفين حكوميين-، إذ يمضي هؤلاء يومياً ساعات طويلة على الطرقات لحين الوصول إلى مقرعملهم، ليتكرر السيناريو مرة أخرى في طريق عودتهم.
سليمان، أحد الموظفين في مديرية السجل المدني بحلب، يروي في حديثه معاناته اليومية على الطرقات: “كلّ يوم أخرج من منزلي الكائن في بلدة كفردريان الواقعة على بعد 13 كيلومتراً من مدينة سرمدا شمال إدلب، أتوجه بداية إلى سرمدا بواسطة الباصات، ثم أستقل السرفيس إلى مدينة حلب، أنا عملياً أمضي نحو ساعتين في طريق الذهاب ومثلهما عند الإياب”.
ويؤكد سليمان، أن حاله من حال مئات الموظفين الذين يعانون من مسألة المسافات والطرقات والمواصلات، والجميع يؤكد أن ما دفعهم للسكن في هذه القرى البعيدة، هي مسألة الإيجارات المرتفعة، التي لا قبل لهم ولا لرواتبهم الشهرية بها، معتبراً أن الموظف الذي يتمكن من المبيت في مكان عمله بعيداً عن عائلته طوال أيام الأسبوع، يعد من المحظوظين لأنه يحفظ وقته وماله ويوفر على نفسه عناء الطريق كلّ يوم.
ظروف مبيت قاسية
أما عن مسألة المبيت، فعلاوةً على رفض غالبية المؤسسات الخاصة أو الحكومية مبيت موظفيها في مبانيها، إلا أن لمسألة مبيت الموظفين حكاية أخرى وخاصة في حلب، إذ تعتبر بمثابة عقاب يبدأ اعتباراً من الساعة 12 ليلاً، ويستمر حتى الساعة العاشرة صباحاً.. و”بمجرد توقف الأمبيرات تبدأ المعاناة”.
يصف علي، موظف في محافظة حلب وضع المبيت في الدوائر الحكومية بالمزري، مشيراً إلى أن غالبية الدوائرالحكومية وكحل لمسألة انقطاع الكهرباء، تمّت تغذيتها بنظام الأمبيرات الذي تمتد ساعات تشغيله بين العاشرة صباحاً وحتى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، ولكن ما الذي يحصل بعد ذلك؟.
وفقاً لـعلي فإنه وبمجرد توقف الأمبيرات وانقطاع الكهرباء، تتحول الدائرة الحكومية التي تعج بالطاولات والمعدّات إلى (فرن)، خاصة في ظلّ صيف قاسٍ تواجهه البلاد، فضلاً عن لسعات البعوض التي لا تتوقف، مضيفاً: “نحن محاصرون بين صفيحين ساخنين، الأول يتمثل بعناء الطريق وتكاليفه، والآخر بظروف المبيت القاسية في حال أراد الموظف توفير جهده وماله ووقته، وعلى كلا الحالتين يبقى استئجار منزل أفضل الحلول بعيدة المنال بسبب ارتفاع أسعارالإيجارات.
بلدية حلب: لا تعليق
مجلس مدينة حلب، الذي يُعتبر الجهة المخوّلة بتنظيم وضبط هذا الأمر، ردّ حول مسألة وجود قوانين ناظمة لعمليات الإيجار بالقول: “إن مجلس المدينة لا يمكنه التعليق على هذه المسألة حالياً، لكون هذه الترتيبات لا تزال قيد التجهيز، هناك حالياً ترتيبات لتنظيم عمليات الإيجار سيبدأ العمل بها خلال شهر تقريباً”.
وفيما تُعِدُّ البلدية قانونها الجديد، لضبط الجشع والاستغلال وتنظيم عمليات الإيجارات، يواصل مُلّاك المنازل رفع الأسعار، أملاً في تحصيل قرش إضافي من جيوب الفقراء، يساندهم في ذلك أصحاب المكاتب العقارية، الذين يقبلون بعرض منازل متهالكة بأسعار خيالية وفقاً لمواطنين..
وهنا يبقى السؤال مطروحاً: “هل يجب على الدولة تنظيم عمليات الإيجار، أم يجب إعداد خطّة لإعادة إحياء الضمير لدى بعض الجشعين والمنتفعين من جشعهم؟
يتساءل مواطن فقير يُطالع بصمت صفحات التواصل الاجتماعي، أملاً بالعثور على منزل يتناسب مع وضعه المادي ويقيه وأسرته حرّ الصيف وبرد الشتاء المقبل.