الثورة – علا محمد:
“لا تغضب ولك الجنة”.. عبارةٌ لخص بها معتقلٌ سابق فقدَ شقيقين، فلسفة حياة اختار أن يسلكها، مفضلاً الرحمة على الحقد، والغفران على الانتقام، لم يكن قراره سهلاً، لكنه كان السبيل الوحيد ليبقى قلبه حراً وروحه نقية، وتتحول محنته إلى رسالة أمل لوطن يحتاج إلى شجاعة الغفران ليشفى.
الدكتور محمد طه، إمام وخطيب جامع “الفتح” في دير الزور سابقاً، يفتح ذاكرته لـ”الثورة”، ليحكي قصة اعتقاله وما تبعها من فقد ووجع، ورسالة يصرّ على أن تصل للناس جميعاً أن الوطن لا يُشفى بالانتقام، بل بالرحمة.

بداية الحكاية
يقول طه: في زمن الحصار، كان جامع “الفتح” يعجّ بالمصلين، كما لو كان الأموي في دمشق، موضحاً أنه في تلك الأيام لم يكن هناك دواء ولا حليب للأطفال، ولا كهرباء، فيما كانت بعض المواد المهرّبة تصل بسهولة، مثل الخمر والدخان، على مرأى العيون.
وأضاف: إن حادثة طرق باب منزله من قبل امرأة تحمل طفلاً مريضاً، تبكي عجزها عن إيجاد الحليب، كانت الشرارة، إذ لم يجد بُداً من أن يقول كلمة الحق على المنبر، فاعتُقل في اليوم التالي ووُضع في الزنزانة الانفرادية، وعلى حد قوله، لم يفاجئه الأمر لأنه كتب وصية مسبقة لزوجته، لكنه أكد أن الأصعب كان عيني والدته وهي تودّعه من دون أن تدري إن كان سيعود.
حين يتحول الفقد إلى قوة
في المعتقل، بين طه أن أصعب ما مر به لم يكن التعذيب وحده، بل التعامل مع المعتقلين وكأنهم أرقام بلا أرواح، مشيراً إلى أن أكثر ما أدمى قلبه كان سماع أنين الآخرين من حوله من دون أن يملك وسيلة لإنقاذهم، مع ذلك، بحسب تعبيره، كانت هناك ومضات إنسانية صغيرة، مثل ابتسامة أحد المعتقلين التي حاولت أن تمنحه شيئاً من الأمل، وكأنها تقول: “نحن أقوى مما يظنون” لكن جراح السجن لم تتوقف هنا، إذ جاءه بين جدران السجن الخبر الذي حفر في قلبه جرحاً لا يندمل، وفاة شقيقيه تحت التعذيب، بكى بصمت، ودفن وجعه في صدره، إلا أنه أقسم ألا يكون موتهما نهاية بل بداية، موضحاً أن الفقد كسره في البداية، لكنه تحوّل مع الوقت إلى قوة تدفعه لحمل رسالتهما ومتابعة حلمهما، ولم ينكر كيف طرق الحقد قلبه، لكنه لم يستقر فيه، فقد أدرك أن الغضب لا يحرر بل يقيد، واختار الرحمة، لأنها السبيل الوحيد لسلام داخلي يمنحه القوة ويمنح الآخرين فرصة للتغيير.
الغفران كطريق للشفاء
حين يتحدث طه عن الوطن، يؤكد أن الغفران لا يعني النسيان، بل يعني التحرر من أسر الماضي، الوطن في نظره ليس أرضاً فقط، بل شبكة من العلاقات والمشاعر والذاكرة الجماعية، وبالرحمة وحدها يمكن إعادة بناء الثقة وترميم الروابط لتتحول الأرض إلى بيت للجميع بدلاً من أن تكون ساحة للصراع، ويرى أن تجاوز الألم لا يعني التخلي عن الحقوق، فالعدالة يجب أن تبقى، لكن بعيداً عن منطق الانتقام، وهو يستشهد دائماً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وبكلمات يوسف عليه السلام: “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.
بالنسبة لـ طه، المغفرة ليست ضعفاً بل قوة، هي الخيار الأصعب، لكنها السبيل الوحيد لبناء وطن يتسع للجميع، و يختصر رسالته بالقول: “إذا أظهرك الله على من أساء إليك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه” هكذا يروي الدكتور محمد طه حكايته، اعتقال، فقد، ألم، ثم خيار صعب اسمه الرحمة، رسالة يصرّ على أن تصل لكل سوري: أن الوطن لا يُشفى بالانتقام، بل بالرحمة التي تحرر القلوب وتمنح الأوطان فرصة للحياة من جديد.
