الثورة – ناديا سعود:
في عالم اليوم، لم يعد التطور التكنولوجي مجرد رفاهية، بل أصبح حاجة أساسية لتطوير المجتمعات وتحسين حياة الناس، ومن بين أهم هذه التقنيات الحديثة يبرز التوءم الرقمي، وهو نموذج افتراضي يحاكي الواقع بدقة ويساعد في اتخاذ قرارات أفضل وأسرع.
بالنسبة لسوريا، التي تسعى اليوم إلى إعادة بناء مدنها وتطوير خدماتها، فإن إدخال هذه التقنية يمكن أن يشكل نقطة تحول مهمة، فالتوءم الرقمي لا يقتصر على توفير الوقت والتكاليف، بل يساعد أيضاً في التخطيط الأفضل للمشاريع، وإدارة الموارد بشكل ذكي، وتقديم حلول عملية لمشاكل يعاني منها المواطن يومياً، مثل النقل والطاقة والخدمات العامة، إن اعتماد هذه التقنية الآن يعني خطوة حقيقية نحو بناء مستقبل أكثر كفاءة واستدامة.
صناعة أكثر تطوراً
الأستاذ في كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية الدكتور سامر حسام الدين- اختصاص ميكاترونيكس، أكد في حديثه لصحيفة الثورة الأهمية المتزايدة لتقنيات الذكاء الصناعي والتوءم الرقمي، خصوصاً في القطاع الصناعي والإنتاجي، معتبراً أن هذه الأدوات تمثل ركناً أساسياً من الجيل الرابع من الصناعة، وهي من أبرز المجالات التي ينبغي لسوريا استقطابها في هذه المرحلة، ولا سيما مع انطلاق مسيرة إعادة الإعمار.
وأوضح أن التوءم الرقمي يتيح إنشاء نموذج افتراضي يحاكي خطوط الإنتاج والمعامل بشكل مطابق للواقع، إذ يمكن من خلاله متابعة البراميترات والبيانات التشغيلية بدقة، ثم تطبيقها مباشرة على أرض الواقع، مضيفاً: هذا يعني أن الصناعي يستطيع معرفة الأعطال المحتملة مسبقاً، وتحديد الإصلاحات المطلوبة، وتطوير آليات الإنتاج بكفاءة أعلى. وأشار د. حسام الدين إلى أن الفوائد لا تقتصر على الصناعيين فقط، بل تشمل أيضاً الباحثين والطلاب، وإن إكساب الطلبة مهارات التعامل مع هذه التقنيات الحديثة يفتح أمامهم أبواب سوق العمل بقدرات جديدة تتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة، كما أن المستثمرين والجهات الداعمة للاستثمار سيستفيدون بشكل كبير، إذ تمنحهم هذه النماذج الافتراضية صورة واقعية دقيقة عن المعامل وخطوط الإنتاج، ما يزيد من موثوقية المشاريع وجدواها الاقتصادية. ولفت إلى ضرورة تحديث المناهج الجامعية بما يواكب هذه التوجهات، إلى جانب تطوير المخابر وتأهيل الكوادر الأكاديمية والطلاب على حد سواء، مؤكداً أن ذلك سيُسهم في خلق بيئة بحثية متقدمة، تواكب التحولات العالمية وتدعم سوق العمل المحلي. وأكد د. حسام الدين أهمية التعاون بين الكفاءات السورية في الداخل والخارج، بما يسهم في ردم الفجوة القائمة في المجال الصناعي والتكنولوجي، ويعزز فرص تحقيق ازدهار حقيقي مبني على المعرفة والابتكار.
ليست ترفاً
عضو اللجنة المنظمة لمؤتمر سفير في نسخته الأولى الدكتور نضال ظريفة- أستاذ وباحث في مجال هندسة الاتصالات من إحدى الجامعات الألمانية، أشار إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي والتوءم الرقمي باتت ضرورة ملحّة لمختلف المؤسسات والأكاديميات، وليست خياراً أو ترفاً علمياً. وأوضح أن هذين المفهومين متكاملان، ويشكلان ركيزة أساسية لتطوير الأداء المؤسسي والأكاديمي على حد سواء، مشيراً إلى أن المؤتمر وفر فرصة غير مسبوقة أمام الأكاديميين من اختصاصات متنوعة للتعرف على هذه التقنيات، وفهم آليات توظيفها في بيئات العمل المختلفة.
وأضاف د. ظريفة: الذكاء الاصطناعي والتوءم الرقمي ليسا حكراً على المهندسين فقط، بل هما أدوات يجب أن تكون حاضرة لدى مختلف التخصصات والمؤسسات، فاليوم نحن بحاجة لتصميم نماذج وأدوات عملية نستطيع عبرها تحسين التعليم والإدارة والإنتاج، وفي الجامعات تحديداً، هناك إمكانيات واسعة لتطبيق هذه التقنيات بما يرفع من جودة التعليم ويساهم في مواكبة متطلبات المرحلة الراهنة.
وشدد على أن هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها سوريا، في ظل جهود إعادة الإعمار، تمثل بيئة خصبة لاعتماد الذكاء الاصطناعي والتوءم الرقمي، لافتاً إلى أن هذه الأدوات قادرة على توفير سنوات من العمل والجهد، وتجنب الكثير من الأخطاء، وبالتالي تسريع عجلة الاقتصاد والتعليم وبقية القطاعات. وعن الورشات التدريبية التي رافقت المؤتمر، بين د. ظريفة أن الهدف الأساسي كان تبسيط المفاهيم وإرساء مصطلحات واضحة تساعد حتى غير المتخصصين على الانطلاق باستخدام هذه الأدوات، موضحاً: أن التطور في هذا المجال لا يحدث دفعة واحدة، بل يتدرج مع خصوصية كل مؤسسة، خلال أشهر قليلة يمكن أن نرى الذكاء الاصطناعي مطبقاً بشكل عملي في قطاعات متعددة، يحدث فرقاً حقيقياً في الأداء وتحديد الأولويات وتحسين الواقع الميداني.
وأشار إلى أن تطبيق هذه التقنيات يحتاج حتماً إلى سياسات ناظمة وتشريعات واضحة على مستوى الدولة، من وزارات الاتصالات والمجالس المعنية، إلا أن ذلك لا يمنع المؤسسات من البدء بشكل مستقل ضمن إمكاناتها الحالية، وبناء الأساسات التي تسمح لها بالاندماج لاحقاً مع الأطر الوطنية الشاملة.
فالذكاء الاصطناعي والتوءم الرقمي لم يعودا مفاهيم بعيدة أو مستقبلية، بل واقع قريب وعملي يمكن أن يغيّر وجه المؤسسات السورية إذا ما جرى استثماره بالشكل الصحيح.
حفظ الخبرات ونقلها للأجيال
من جانبه، أوضح الدكتور سامح عطري، الباحث السوري البريطاني المقيم في كارديف – ويلز منذ عام 2000، والحاصل على دكتوراه في الروبوتات والذكاء الاصطناعي من جامعة كارديف، أن التوءمة الرقمية تمثل الجسر بين العالم الحقيقي والعالم الرقمي
وأوضح أن التوءمة تعني ببساطة أن أنقل كل ما هو موجود في الواقع إلى نموذج رقمي، على سبيل المثال، كيف نحافظ على خبرة عامل لديه 40 عاماً من المهارة في اللحام أو خبرة عالم مثل آينشتاين؟ عبر التوءمة يمكننا تحويل هذه المعرفة إلى نموذج رقمي يبقى محفوظاً للأبد، ويستفاد منه في تدريب الروبوتات والأنظمة الذكية.
ويرى د. عطري أن لهذه التقنية تطبيقات واسعة في الثقافة، الاقتصاد، السياسة والتعليم، لافتاً إلى أن الجامعات السورية تستطيع الاستفادة منها بشكل مباشر من خلال محاكاة رقمية لمعامل وخطوط إنتاج لا يمكن توفيرها مادياً بسبب تكلفتها العالية، قائلاً: الطالب يمكن أن يقف أمام نموذج رقمي كامل لمعمل متكامل، يتعلم على الحساسات والبرمجة دون تكاليف مادية أو مخاطر إتلاف المعدات.
كما انتقد الأسلوب التقليدي في التعليم القائم على المحاضرات النظرية، داعياً إلى اعتماد منهجية التعليم القائم على المشاريع (Project-Based Learning)، التي تمنح الطالب فرصة لحل المشكلات الحقيقية بدلاً من الاكتفاء بالجانب النظري.
تجارب تطبيقية
وكشف د. عطري عن تنظيمه سلسلة ورشات عمل في الجامعات السورية، بدأها من جامعة حلب، وسيقدم محاضرة حول خوارزمية ابتكرها مستوحاة من حركة النحل في الطبيعة، تساعد في حل المشكلات عبر محاكاة سلوكيات الكائنات الحية.
وأكد استعداده لتوسيع هذه التجربة في جامعات دمشق وغيرها، بهدف نقل خبراته الأكاديمية من بريطانيا إلى سوريا، والمساهمة في بناء قاعدة معرفية عملية قادرة على مواكبة التطورات العالمية.
الرقمنة ضرورة
من جانبها، أكدت خبيرة دراسات الجدوى الاقتصادية في منظمة “أكساد” الدكتورة سعاد الشماط، أن الرقمنة أصبحت متطلباً أساسياً وملحاً لسوريا في مرحلة التعافي، ولاسيما إذا ما قورنت بتجارب الدول العربية والعالمية الأخرى.
وأوضحت أن مؤتمر السفير الذي حضرته سلط الضوء على آليات التوءمة الرقمية وتقنيات الاستشعار عن بعد، لافتة إلى أن للمنظمات الدولية دوراً محورياً في هذا المجال، وقالت: منظمة “أكساد” قطعت خطوات مهمة عبر اتفاقيات تعاون في مجالات الأنظمة الصناعية والاستشعار عن بعد، إلى جانب برامج تأهيل وتدريب الخبراء على الذكاء الاصطناعي. وأضافت: إن هذه الجهود تشكل ركيزة مهمة لبناء سوريا الجديدة، حيث يشكل التحول الرقمي جزءاً لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية المستدامة.
ما يجمع بين آراء الخبراء هو الإيمان أن الذكاء الاصطناعي والتوءمة الرقمية لم يعودا ترفاً معرفياً، بل أدوات عملية يمكن أن تسهم في دفع عجلة إعادة الإعمار، وتحسين الأداء المؤسسي والتعليمي، وتوفير بدائل رقمية تقلل من التكاليف والمخاطر.
وعلى الرغم من أن صياغة السياسات الوطنية والتشريعات ستستغرق بعض الوقت، إلا أن المؤسسات والجامعات السورية مدعوة للبدء منذ الآن بخطوات عملية ضمن قدراتها، بما يمهد لمرحلة أكثر نضجاً وفعالية في المستقبل القريب.