الثورة – فؤاد الوادي:
تكتسب زيارة وزير الخارجية أسعد حسن الشيباني أهمية خاصة، كونها من جهة، الأولى منذ خمسة وعشرين عاماً لوزير خارجية سوري، ومن جهة أخرى، تأتي تمهيداً لزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى نيويورك، في تجسيد واضح لتطور العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة بشكل متسارع بعد عقود من القطيعة والتوتر والمد والجزر بين البلدين.
التوقيت والرسائل
الزيارة استراتيجية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ليس لجهة التوقيت الاستثنائي فقط، حيث التخمة في تعقيدات المشهد السوري والإقليمي والعالمي، باتت أمراً واقعاً، يفرض على الجميع تغيير نهج التعاطي مع المستجدات، بل لجهة الرسائل والدلالات الكثيرة التي تحملها لدول الجوار والعالم، والتي تتقاطع جُلها عند حقيقة واحدة، وهي أن فصلاً جديداً من العلاقات الثنائية بين دمشق وواشنطن قد بدأ، على ركائز وقواعد ثابتة قوامها الحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار الدولة السورية، كأساس لاستقرار المنطقة والعالم.
زيارة الشيباني، تُشرع الأبواب أمام إعادة بناء العلاقات السورية – الأميركية، وفي شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما يضفي عليها بعداً إضافيا من الأهمية والمكانة، كونها جاءت بعد عقود عجاف، وامتداداً لزيارة العديد من المسؤولين الأميركيين إلى سوريا خلال المرحلة التي أعقبت سقوط النظام المخلوع، لذلك ينظر إليها على أنها سوف، تشيد اللبنة الأولى في علاقات البلدين الاستراتيجية، انطلاقاً من الدور المحوري والتأثير الجيوسياسي لدمشق في المنطقة والعالم، فالمصالح المشتركة، تفرض على البلدين فتح صفحة جديدة والانطلاق نحو المستقبل.
دعم أميركي لاستقلال سوريا
لقد شهدت العلاقات السورية – الأميركية محطات تاريخية، تميزت بالتعاون تارة، وبالتباعد والصراع تارة أخرى، إذ دعمت الولايات المتحدة السوريين قبيل الاستقلال في العام 1946، وتعاونت مع الدولة الوليدة في الفترة التي تلت استقلالها من الاحتلال الفرنسي والبريطاني، وقد شهدت فترات أخرى تعارضاً وصراعات أدت إلى فرض عقوبات اقتصادية أثرت بشكل واضح على البلاد وعطلت عجلة اقتصادها سنوات.
وتعود جذور العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة، حين أقامت أميركا تمثيلاً دبلوماسياً في مدينة دمشق منذ مطلع القرن الماضي.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى برز الدور الأميركي في مرحلة إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول 1918، أعلن الملك فيصل الأول استقلال سوريا، رغم اعتراض القوتين الاستعماريتين الرئيسيتين آنذاك فرنسا وبريطانيا.
وسعى العرب إلى الاستفادة من دعم الرئيس الأميركي حينئذ وودرو ويلسون، مستندين إلى مبادئه المعلنة حول حق الشعوب في تقرير مصيرها وتكريس النماذج الديمقراطية، فبعث إليه الملك فيصل رسالة مباشرة، تلقى على إثرها رداً شخصياً أعرب فيه الرئيس الأميركي عن اهتمامه بالقضية العربية.
لكن تطورات الأوضاع الدولية، وتدهور صحة ويلسون ووفاته لاحقاً، حالت دون تحقيق الدعم الأميركي الكامل لاستقلال سوريا، التي خضعت في النهاية للانتداب الفرنسي بموجب ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي الحرب العالمية الثانية، انحاز العديد من القادة السوريين، ومنهم الرئيس شكري القوتلي، إلى جانب دول الحلفاء، إذ أعلنت سوريا ولبنان عام 1945 الحرب على دول المحور، ما أتاح لهما حضور مؤتمر سان فرانسيسكو والمشاركة في تأسيس منظمة الأمم المتحدة.
قلب الشرق الأوسط
كما دعمت الولايات المتحدة في تلك المرحلة مطالب السوريين بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني، ووقف الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان بوضوح ضد المساعي الفرنسية لاستمرار الانتداب على سوريا، ما أسهم في استقلالها الكامل عام 1946، والمضي قدماً في بناء علاقاتها الدولية، بعدما أقامت علاقات دبلوماسية رسمية مع الولايات المتحدة قبل ذلك عبر تعيين أول مفوض سوري في العاصمة واشنطن في 30 يناير/كانون الثاني 1945.
بعد نيل سوريا استقلالها، اتخذ الرئيس شكري القوتلي مواقف حاسمة تجاه قضايا محورية في المنطقة، منها رفض تقسيم فلسطين وقرار الهدنة الذي أصدرته الأمم المتحدة بين الدول العربية وإسرائيل.
وكانت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترومان، تعتبر سوريا نقطة رئيسية في استراتيجيتها الإقليمية، إذ اعتبرتها “قلب الشرق الأوسط” لما تتمتع به من أهمية جيوسياسية، لكن هذه المرحلة شهدت تصاعداً في التوتر بين البلدين، خصوصاً مع تصاعد الحرب الباردة التي امتدت إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث تصارع النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكانت سوريا مسرحاً لهذا الصراع.
وفي يناير/كانون الثاني 1957، أعلن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مشروعاً عسكرياً لمواجهة التوسع السوفييتي في المنطقة، مؤكداً أن الولايات المتحدة يجب أن تتدخل بذريعة ضمان استقلال الدول النامية ووقف المد الشيوعي، وجاءت استراتيجية واشنطن حيال سوريا في تلك المرحلة بهدف احتواء النفوذ السوفييتي عبر دعم حلفاء إقليميين، خصوصاً مصر، التي تلقت بدورها مساعدات أميركية.
وبعد قيام الوحدة السورية المصرية في فبراير/شباط 1958، قدمت الولايات المتحدة مساعدات إلى سوريا بلغت 20 مليون دولار، إضافة إلى 20 مليون دولار أخرى على شكل مساعدات عسكرية.
وبعد حرب 1967 شهدت العلاقات الأميركية السورية فتوراً ملحوظاً، وزادت حدة التوتر وتطورت إلى ما يشبه القطيعة مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، رغم زيارة مفاجئة للرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى دمشق في 15 يونيو/حزيران 1974، في محاولة لإحياء العلاقات بعد قطيعة دامت حوالي 7 سنوات.
قائمة الدول الراعية للإرهاب
ثم تفاقم التوتر بعد إدراج الولايات المتحدة سوريا في “قائمة الدول الراعية للإرهاب” عام 1979، بسبب دعم دمشق لفصائل فلسطينية التي كانت تصنفها واشنطن “إرهابية”، ما أدى إلى فرض أولى العقوبات الاقتصادية والعسكرية على سوريا، شملت حظر بيع الأسلحة والتقنيات المتقدمة، وقيوداً مالية وتجارية، وحظراً على المساعدات الأميركية.
ورغم مشاركة القوات السورية في التحالف الدولي أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991، لم ترفع الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية عن دمشق.
بعدها شهدت العلاقات في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون أثناء الفترة الممتدة بين 1993 و2001 تطوراً طفيفاً تمثل في تعاون هش، عندما حاول كلينتون دفع عملية السلام بين العرب وإسرائيل عبر اتفاق أوسلو، ونجح في إشراك سوريا ولبنان والأردن في المفاوضات، لكنه فشل في التوصل إلى اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل.
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 شهدت السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط تغيراً جوهرياً، وشهدت العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن، مواجهة حادة. فقد وصف الرئيس الأميركي سوريا بأنها جزء من “محور الشر” المعادي للولايات المتحدة، وعمل على عزلها وممارسة ضغوط مستمرة من أجل تغيير مواقف النظام.
وبلغت العلاقات أدنى مستوياتها قبل الغزو الأميركي للعراق في مارس/آذار 2003، إذ عارض النظام السوري الغزو واتهمته واشنطن بفتح حدوده أمام مقاتلين أجانب للقتال ضد قوات التحالف، ما دفع الكونغرس الأميركي إلى إقرار قانون “محاسبة سوريا” عام 2003.
وفرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية على سوريا شملت قيوداً مالية وبنكية، قبل أن يصدر بوش الابن في مايو/أيار 2004 الأمر التنفيذي رقم 13338، معلناً حالة الطوارئ الوطنية وبدء برنامج عقوبات شامل على سوريا.
ازدادت حدة التوتر بعد اتهام النظام السوري آنذاك بالضلوع في اغتيال زعيم حزب تيار المستقبل اللبناني رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، ودعمه لميليشيا حزب الله في حرب يوليو/تموز 2006.
مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009، حاول الانفتاح على سوريا رغم إدراكه عمق التدهور في العلاقات والمخاطر الكبيرة الناجمة عن اتهامات إدارة بوش لنظام بشار الأسد برعاية الإرهاب والتدخل في العراق.
دعم الثورة السورية
شكل اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس/آذار 2011 نقطة تحول حاسمة في تاريخ سوريا والعلاقات الدولية معها.
وأدى الإجرام والقمع الذي مارسه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين إلى استنفار الولايات المتحدة وأوروبا، ودفعهما إلى فرض عقوبات واسعة وخانقة على سوريا، شملت حظر التعامل مع البنك المركزي السوري، وفرض قيود صارمة على صادرات النفط والمنتجات السورية.
علاوة على ذلك، أصدرت الإدارة الأميركية سلسلة من الأوامر التنفيذية التي استهدفت نظام الأسد بشكل مباشر.
وفي عام 2020، أقر الكونغرس الأميركي “قانون قيصر”، الذي شكل إطاراً لفرض عقوبات على كل من يتعامل مع النظام اقتصادياً أو عسكرياً، إضافة إلى الشركات السورية والدولية التي تدعم الحرب أو تشارك في إعادة إعمار البلاد، مع استهداف موسع لدولتي روسيا وإيران الداعمتين للنظام.
وفي نهاية عام 2022، وقع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن قانون “الكبتاغون 1″، الذي فرض عقوبات على كيانات وأفراد مرتبطين بنظام الأسد بسبب تورطهم في تجارة المخدرات، تلاه في 24 أبريل/نيسان 2024 توقيعه على قانون “الكبتاغون 2″، الذي وسع نطاق العقوبات نفسها في محاولة للحد من التمويل غير المشروع للنظام السوري عبر هذه التجارة.
ما بعد سقوط الأسد
شهدت العلاقات الأميركية السورية تطورات لافتة بعد سقوط نظام الأسد، إذ وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 30 يونيو/حزيران 2025 أمراً تنفيذياً ينهي البرنامج الأميركي للعقوبات على سوريا، في خطوة فاجأت الكثيرين، حتى من دائرته المقربة.
وجاء هذا القرار عقب لقاء في مايو/أيار من العام نفسه، جمعه بالرئيس أحمد الشرع على هامش منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في الرياض، تعهد فيه ترامب برفع العقوبات مساهمة منه في دعم جهود إعادة الإعمار في سوريا و”منح الشعب السوري فرصة جديدة” بعد انهيار نظام الأسد.
ويقضي الأمر التنفيذي برفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، بما في ذلك فك القيود على التعامل مع البنك المركزي السوري، وإعادة سوريا إلى النظام المالي الدولي.
وأبقى ترامب العقوبات سارية على الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأفراد نظامه، والكيانات المرتبطة بالأسلحة الكيميائية وتلك المتهمة بالإرهاب والمخدرات، وكذلك المليشيات المرتبطة بإيران، كما ظل “قانون قيصر” سارياً، مع إشارة الإدارة الأميركية إلى عزمها البدء في مراجعة بعض جوانبه.
وتمثل هذه الخطوة تحولاً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وقد فتحت الباب أمام استثمارات إقليمية ودولية في عملية إعادة الإعمار، خاصة من تركيا والدول الخليجية.