الثورة- منذر عيد:
تعيش منطقة الشرق الأوسط في لحظة مفصلية تتسم بتعقيدات جيوسياسية متشابكة، وتوازنات إقليمية ودولية دقيقة، وفي هذا السياق، برزت تحركات دبلوماسية سورية لافتة خلال الأشهر الأخيرة، اتخذت طابعاً مكوكياً بين عواصم مختلفة، من باريس إلى واشنطن مروراً بباكو، وتكمن أهمية هذه التحركات في كونها تأتي بعد عقد من العزلة شبه التامة التي فرضت على دمشق في زمن النظام السابق منذ عام 2011، وما تلاها من ضغوط وعقوبات غربية واسعة النطاق.
وعليه، تمثل زيارة وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني إلى الولايات المتحدة محطة بارزة في مسار السياسة الخارجية السورية، إذ إنها الزيارة الأولى من نوعها منذ 25 عاماً، بعد زيارة وزير خارجية النظام السابق فاروق الشرع عام 1999، ولتعزز الزيارة حالة الانفتاح الجديدة بين البلدين عقب رفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب العقوبات عن سوريا، ولتمحي مرحلة التوتر التي تكونت عقب أحداث 11 أيلول 2001، وخصوصاً بعد تصنيف سوريا دولة “راعية للإرهاب”، ولتردم الشرخ بين دمشق وواشنطن الذي تعمق عام 2011.
وتتجلى أهمية الزيارة في بعدين رئيسيين، الأول البعد الرمزي، لجهة إعادة فتح السفارة السورية في واشنطن ورفع العلم السوري فوق مبناها، وهو فعل يتجاوز البروتوكول الدبلوماسي ليعكس استعداداً متبادلاً لإعادة إحياء قنوات الاتصال، وكسر عزلة دبلوماسية استمرت أكثر من عقد، بما يشير إلى اعتراف ضمني بدور دمشق في الترتيبات الإقليمية المقبلة، وثانيا البعد العملي، من جهة عقد لقاءات رفيعة المستوى مع مسؤولين في وزارتي الخارجية والخزانة الأميركيتين، إضافة إلى حوارات مع أعضاء في الكونغرس، وهو ما يعكس انتقال العلاقات من حالة الجمود إلى اختبار أولي لإمكانيات الحوار والتفاوض، والبحث عن نوافذ اقتصادية لتخفيف حدة الأزمة الداخلية، واستكشاف فرص تفاهم مع واشنطن في ملفات أمنية وسياسية، مثل مكافحة الإرهاب، الحدود العراقية– السورية، الملف الكردي، والعلاقة مع حلفاء سابقين (روسيا وإيران).
من المؤكد أن انخراط دمشق في مسار دبلوماسي مكوكي يعكس تحولاً في مقاربة السياسة الخارجية السورية، يقوم على الانفتاح على الغرب بعد سنوات من الاعتماد المفرط على الحلفاء التقليديين (روسيا وإيران)، وإعادة التموضع الإقليمي عبر المشاركة في صيغ تعاون جديدة مثل الانفتاح على جنوب القوقاز (باكو) والانخراط في حوار مع عواصم أوروبية، إضافة الى البحث عن كسر العزلة من خلال خطوات عملية تتيح استعادة شرعية دولية تدريجية.
وتأتي التحركات الدبلوماسية الأخيرة لتعكس مسعى دمشق لإعادة تعريف موقعها في النظامين الإقليمي والدولي، عبر توظيف اللحظة الدولية الراهنة، في ظل تراجع أولوية الشرق الأوسط في الأجندة الأميركية، ومن هنا، فإن الدبلوماسية المكوكية السورية، بما تحمله من رمزية وتطلعات عملية، قد تمثل بداية مسار جديد لإعادة تموضع سوريا كلاعب إقليمي فاعل، رغم ما يحيط بهذا المسار من تعقيدات وتحديات بنيوية.