الثورة – همسة زغيب:
تنتشر سُبُل الماء في عدد من الأماكن، وخاصة في دمشق القديمة، كعلامات حجرية تنطق بالكرم، وتُرسّخ روح المدينة المتجذّرة في العطاء، تُثبّت على جدران المساجد والمدارس والخانات، وتتغذّى من مياه عين الفيجة، لتقدّم ماءً بارداً في الصيف، وتروي العابرين من دون مقابل، في مشهد حضاري يُجسّد التكافل الدمشقي.
يتنوّع بناء السُبُل عبر العصور، إذ تعود أصولها إلى الحقبة الأيوبية، والمملوكية، والعثمانية، وتتميّز بجمالها الحجري ونقوشها الإسلامية التي تزيّن واجهاتها بآيات قرآنية مثل: “وسقاهم ربهم شراباً طهوراً”، وأبيات شعرية مثل: “والماء يبدأ من دمشق، فأينما أسندت رأسك جدول ينسابُ”.. كما تُوثّق بأسماء المتبرعين وسنوات الإنشاء، وتُزيّن بدعوات بالرحمة بخط عربي أنيق وزخارف هندسية.
يشير الباحثان أحمد فرزة طرقجي ومطر خشان، في كتابهما السُبُل في مدينة دمشق، إلى أنَّها تنقسم إلى ثلاث مراحل تاريخية، لكل منها طابعها المعماري والروحي، ومنها في العصر الأيوبي (1186-1250م)، إذ تُنشأ السُبُل قرب المساجد والزوايا، وتُقدّم الماء كصدقة جارية، في تصميم بسيط ووظيفة عميقة تعكس روح الوقف الخيري. لكن في العصر المملوكي (1250-1516م) تطوّرت الزخارف، وتحوّلت السُبُل إلى معالم أثرية توثّق أنظمة المياه القديمة، وتُجسّد فن العمارة الدمشقية في أدق تفاصيله، فيما ازدادت في العصر العثماني زخرفتها، لارتباطها بالجوامع الكبرى، ويُصبح الماء رمزاً للطهارة والرحمة، ومصدراً رئيسياً لمياه المدينة.
تُجسّد السُبُل الدمشقية فعل الوقف الخيري، وتحوّل الماء من حاجة يومية إلى رسالة إنسانية وجمالية.. إنها ليست مجرد صنابير قديمة، بل شواهد حضارية تنطق بالكرامة، وتروي قصة مدينة جعلت من الماء فعلاً ثقافياً نابضاً بالحياة، محفوراً في ذاكرة الحجر.



