الثورة – تحقيق – وعد ديب:
في ظل تحولات اقتصادية عالمية متسارعة، يشهد الذهب ارتفاعاً مستمراً، مدفوعاً بعدة عوامل تتقاطع بين استراتيجيات البنوك المركزية وتوجهات المستثمرين، ما يعكس ضعف الثقة المتزايدة بالدولار الأمريكي وتنامي الحاجة إلى ملاذات أخرى آمنة
في هذا التحقيق تعرض صحيفة الثورة القضية، وترصد آراء خبراء اقتصاديين، وتناقش أسباب ارتفاع الذهب، وتأثيرها على الأسواق العالمية، وتوقعات المستقبل.
موقف البنوك العالمية
وفقاً للخبير المالي والمصرفي، الدكتور علي محمد، فإن هناك توجهاً واضحاً لدى البنوك المركزية حول العالم لزيادة احتياطاتها من الذهب، نتيجة قناعة متزايدة بأن الاعتماد المفرط على الدولار لم يعد خياراً آمناً على المدى الطويل، ويتماشى هذا التوجه مع مبادئ التنويع الحديثة للاستثمار، حيث تسعى البنوك لتحقيق توازن بين الذهب والعملات الأجنبية، ما يسرع من خطواتها في هذه الاستراتيجية، ولا يقتصر هذا السلوك على البنوك المركزية فحسب، بل يشمل أيضاً المستثمرين الأفراد والمؤسسات الذين يوزعون استثماراتهم بين الذهب، الأسهم، العملات الرقمية، والقطاعات المتنوعة، ما رفع الطلب العالمي على الذهب بشكل ملحوظ.
التقارير الدولية تؤكد تقليص العديد من البنوك المركزية اعتمادها على الدولار وزيادة حيازاتها من الذهب، لأن القيمة السوقية للذهب لدى بعض هذه البنوك – بحسب د. علي محمد – تقارب ما تملكه من عملات أجنبية، وهو مؤشر على سعيها لتحقيق توازن نقدي في احتياطياتها.
هذا التحول يأتي نتيجة عوامل استراتيجية، بينها ضعف الثقة بالدولار والتخوّف من مستقبل الاقتصاد الأمريكي.
إشارات سلبية
و”بعض الدول التي تمتلك كميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية تبحث جدياً عن بدائل تحفظ قيمة أصولها في حال ضعف الدولار مستقبلاً، رغم حرصها الحالي على استقرار الدولار لضمان قيمة تلك السندات”.
الإغلاق المالي الحكومي الأخير في الولايات المتحدة يُضعف ثقة المستثمرين العالميين، ويرسل إشارات سلبية بشأن استقرار النظام المالي الأمريكي، مما يدفعهم نحو الملاذات الآمنة وعلى رأسها الذهب.
وتشير التوقعات المستقبلية، إلى أن البنوك الاستثمارية الكبرى تتوقع وصول سعر أونصة الذهب إلى مستويات بين 4200 و5000 دولار خلال العام المقبل أو الذي يليه، مع احتمالية تصحيحات سعرية تتراوح بين 1 و4 بالمئة، لكنها لن تغير الاتجاه الصعودي العام.
أثر النزاعات
الخبير الاقتصادي الدكتور خالد التركاوي، يرى أن المتغيرات الجيوسياسية، مثل الحروب والنزاعات والتغييرات في موازين القوى تُعد من الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار الذهب، لكن لمعرفة ما إذا كان الارتفاع الحالي مستداماً أو مجرد فقاعة، فمن الضروري فهم استخدامات الذهب الرئيسية، إذ إن جزءاً كبيراً من الذهب يُشترى من قبل البنوك المركزية لتغطية جزء من عملياتها في السوق، والبنوك المركزية في الولايات المتحدة، سويسرا، الإمارات، ودول أخرى تستمر في زيادة حيازتها من الذهب، ولا يعتقد د. التركاوي أن هذا التوجه سيتوقف خلال الأعوام المقبلة، فالذهب لايزال يشكل الملاذ الآمن للأسر، سواء في المناسبات السعيدة أو أوقات الأزمات، والمستثمرون يلجؤون إليه عندما يفقد النقد الورقي، مثل الدولار واليورو، قيمته، وخصوصاً في ظل تصاعد التوترات والحروب القريبة من الاشتعال.
وبخصوص الصناعات، يرى د. التركاوي أن جزءاً صغيراً من الذهب (حوالي 10بالمئة) يستخدم في الصناعات الطبية والإلكترونية، وهي قطاعات تشهد ازدياداً مستمراً في الطلب، والعرض محدود بسبب صعوبة استخراج الذهب، وتكاليف الإنتاج المرتفعة، ما يرفع من قيمة المعدن مع زيادة الطلب، واليوم هناك تنافس بين البنوك المركزية على زيادة حيازاتها من الذهب.
والوضع الحالي يشبه العصور التي كانت تركز فيها الدول ثرواتها على الذهب والفضة والمعادن الثمينة.
واليوم هناك توجه مستمر من عدة دول، مثل الإمارات وتركيا نحو تحويل أسواقها إلى الذهب، ما يعكس حرصاً واضحاً على الاستحواذ على مزيد من المعدن الأصفر”.
ولذلك فإن الصناعات – بحسب التركاوي – تواجه إشكالية وتلجأ إلى التحوط في ظل هذا الواقع، وكذلك المستثمرون يسعون للتحوط عبر الذهب.
تحولات عميقة
الخبير الاقتصادي الدكتور يحيى السيد عمر، يعتقد أن تجاوز أسعار الذهب حاجز 4250 دولاراً للأونصة يعكس تحولات عميقة في الأسواق المالية العالمية، مدفوعة بتداخل عوامل، منها زيادة مشتريات البنوك المركزية من الذهب لتنويع احتياطياتها وتقليل الاعتماد على الدولار، وهو عامل رئيسي في ارتفاع الأسعار، وتعزز التوترات الجيوسياسية، مثل الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، والأزمة الأوكرانية من جاذبية الذهب كملاذ آمن، لذلك فالإغلاق الحكومي الأمريكي، وتأجيل بيانات الاقتصاد الأمريكي كانت عوامل مؤقتة، وتأثيرها أقل من تأثير زيادة الطلب من البنوك المركزية.
أما تصحيحات الأسعار المتوقعة فلن تكون إلا مؤقتة، بحسب السيد عمر الذي يستدل على ذلك بتوقعات بنوك دولية كبرى مثل “غولدمان ساكس” التي تتوقع وصول سعر الأونصة إلى 5000 دولار بحلول نهاية عام 2026. وفي الوقت نفسه فإن التصحيحات تشكل فرص شراء وليست مؤشرات تراجع.
وبخصوص دور المضاربات يرى أن المضاربين يعملون في موجة السوق ولا يقودونها، وأن الطلب المرتفع من البنوك المركزية والتوترات الجيوسياسية هي المحركات الرئيسية لارتفاع الأسعار.
موقف مصرف سوريا المركزي
واعتبر السيد عمر أن قرار مصرف سوريا المركزي تنظيم استيراد وتصدير الذهب وترخيص المصافي خطوة إيجابية نحو شفافية السوق، ولكنه يحتاج إلى دعم قانوني ومؤسسي قوي لضمان الرقابة الفعالة، وإلا فقد تظل الإجراءات شكلية.
وخلص إلى أن تحرير تجارة الذهب في سوريا، يمكن أن يعزز الاستقرار والشفافية، إلا أنه يحتاج إلى رقابة صارمة لتفادي استغلال السوق من المضاربين أو تجار السوق السوداء، وإلا قد يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار بشكل يؤثر سلباً على المواطنين ويزيد التفاوت الاجتماعي.
وأشاد برؤية مصرف سوريا المركزي لتحويل البلاد إلى مركز إقليمي لصناعة الذهب، منبّهاً من التحديات التي تواجه هذا الطموح، مثل ضعف البنية التحتية والبيئة القانونية والعقوبات الدولية، لكنه رأى أن تطوير المناطق الصناعية المتخصصة، وتقديم الحوافز الاستثمارية، وإقامة شراكات إقليمية يمكن أن تجعل هذا الهدف واقعاً متوسط الأمد، مبيناً أن خَيار الذهب يبقى الخيار الآمن في مواجهة تقلبات الأسواق، مع تزايد الإقبال عليه من البنوك المركزية والمستثمرين، وأن التوجه نحو تنويع الاحتياطيات يشير إلى استمرار ارتفاع قيمته في المستقبل القريب.
تأثير التوجهات العالمية
وبحسب مصرف سوريا المركزي فقد واصلت أسعار الذهب ارتفاعها في السوقين الموازي والرسمي، تماشياً مع التوجهات المحلية والعالمية التي تعكس زيادة الإقبال على المعدن الأصفر كملاذ آمن، في ظل استمرار التوترات الاقتصادية والجيوسياسية.
ففي السوق الموازي، ولغاية 20 / 10 الحالي، ارتفع سعر غرام الذهب، عيار 21 قيراطاً بنسبة (0.07بالمئة ) ليُسجل مليوناً وثلاثمئة وسبعة وتسعين ألف ليرة سورية (1,397,000)، مقارنة مع مليون وثلاثمئة وستة وتسعين ألف ليرة سورية (1,396,000) في اليوم السابق.
كما ارتفع غرام الذهب من عيار 18 قيراطاً بنسبة (0.08بالمئة)، ليُسجل مليوناً ومئة وثمانية وتسعين ألف ليرة سورية (1,198,000)، مقارنة مع مليون ومئة وسبعة وتسعين ألف ليرة سورية (1,197,000) في اليوم السابق.
وفي سوق الصاغة، ارتفع سعر غرام الذهب من عيار 21 قيراطاً بنسبة واحد فاصلة واحد وأربعون بالمئة (1.41بالمئة )، ليُسجل مليوناً وأربعمئة وخمسة وثلاثين ألف ليرة سورية (1,435,000)، مقارنة مع مليون وأربعمئة وخمسة عشر ألف ليرة سورية (1,415,000) في اليوم السابق.
أما غرام الذهب من عيار 18 قيراطاً، فقد ارتفع بنسبة (1.23بالمئة )، ليُسجل مليوناً ومئتين وثلاثين ألف ليرة سورية (1,230,000)، مقارنة مع مليون ومئتين وخمسة عشر ألف ليرة سورية (1,215,000) في اليوم السابق.
على الصعيد العالمي
بحسب تقرير الأسواق اليومية لنشرة المصرف المركزي، فقد ارتفع سعر أونصة الذهب بنسبة (0.50 بالمئة )، ليُسجل أربعة آلاف ومئتين وثمانية وخمسين دولاراً أمريكياً (4,258)، مقارنة مع أربعة آلاف ومئتين وسبعة وثلاثين دولاراً أمريكياً (4,237) في اليوم السابق.
كل ما سبق يعكس تزايد الطلب على الذهب في الأسواق العالمية وسط التوترات الجيوسياسية والاقتصادية.
آراء مواطنين
محمود العفيدلي، صاحب محل تجاري (دمشق): “كصاحب عمل في قطاع التجارة، ألاحظ أن ارتفاع أسعار الذهب قد أثر بشكل كبير على السوق، فالناس صاروا أكثر حرصاً في إنفاقهم على الذهب، وكلما ارتفع السعر، قلت القدرة الشرائية، وكثير من الزبائن الذين كانوا يشترون الهدايا الذهبية للمناسبات أصبحوا يتراجعون عن الشراء. التراجع في الطلب هو أكبر تحدٍ لنا.” أم عبد الله النقلي، ربة منزل (ريف دمشق): قالت: كان الذهب أداة للاحتفاظ بالثروة للأجيال القادمة، أما اليوم، فلم يعد لدينا القدرة على شراء حتى قطعة صغيرة من الذهب. الوضع أصبح صعباً للغاية، والعديد من الأسر تلجأ الآن إلى توفير احتياجاتها الأساسية فقط، وأصبح شراء الذهب بالنسبة لنا مجرد حلم بعيد.”
أما، سمير، موظف قطاع عام (حلب)، فيقول: أنا موظف في القطاع العام، وأعيش من راتبي، مع ارتفاع الأسعار، أصبح شراء الذهب حلماً غير قابل للتحقيق، في السابق، كنت أفكر في شراء خاتم لزوجتي أو قطعة ذهبية للاحتفاظ بها، لكن الآن حتى توفير الاحتياجات الأساسية للأسرة أصبح يشكل تحدياً.”
نادية محمد ، معلمة (اللاذقية): “كمعلمة، أرى أن الطلب على الذهب ارتفع في أوقات معينة، لكنْ هناك خوف من المستقبل، لا يمكن أن تضمن أسعار الذهب في المستقبل القريب، ولهذا يتردد الكثيرون في شرائه، الطلب مازال يتزايد، لكن يتوجه فقط للأشخاص الذين يستطيعون تحمل هذه الزيادة في الأسعار.
بالنسبة لي، أنا لا أفكر في شراء الذهب في الوقت الراهن، بل أركز على الادخار.”علي القعود ، طالب جامعي (دير الزور): “كطالب جامعي، لا أستطيع حتى التفكير في شراء الذهب، رغم أنني أطمح لأشتري شيئاً لي في المستقبل، إلا أن الأسعار المرتفعة تحول دون ذلك، أرى أن الذهب صار أكثر قرباً من الفئات الغنية فقط، بينما أصبح بعيداً عن غالبية الشباب مثلي.”
أما حمزة أبو الحسن، تاجر ذهب في منطقة جرمانا فيقول: “كخبير في بيع الذهب، أعرف تماماً حجم الطلب في السوق، رغم الارتفاع الكبير في الأسعار، لا يزال الكثير من الناس يطلبون الذهب كاستثمار آمن.
لكن، في الوقت نفسه، مع زيادة الأسعار بشكل مستمر، نجد أن المعاملات أصبحت أقل بكثير من السابق، فالعملاء يبحثون عن أفضل العروض ويترددون قبل الشراء.”
في نهاية المطاف، إن آراء المواطنين حول ارتفاع أسعار الذهب تعكس واقعاً متبايناً يتراوح بين القلق، والتردد في الشراء، وبين فئات تجد في الذهب ملاذاً آمناً، بينما يجد آخرون أنه بعيد عن متناولهم في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
وتبقى المشاعر العامة تشير إلى أن هذا الارتفاع يتطلب حلولاً عملية تضمن توازن السوق وتخفف من الضغوط الاقتصادية على الأسر السورية.