الثورة – لميس عودة:
من يعرف خريطة دمشق قبل يوم التحرير وانتصار الثورة يدرك كيف شوه النظام البائد ملامح هذه المدينة العريقة حين غرس أجهزة بطشه بضخامة كتلها الإسمنتية وسط دمشق ليحكم قبضته الاستخباراتية والترهيبية على رقاب السوريين ويكم أفواههم ويجلد صباحاتهم بصرخات التعذيب المتطايرة من نوافذ الأفرع الأمنية التي تطل على شوارع العاصمة.‎
فمن يزور دمشق قبل انتصار الثورة يلفته كيف تعمّد النظام البائد أن تكون أظافر ترهيبه وأذرع استخباراته مزروعة فيها لدرجة أن الكثير من شوارعها باتت تكنى باسم الفرع الأمني أو الجهاز الاستخباراتي، ومن منا لا يعرف المربع الأمني وسط العاصمة الذي كان مصدراً للرعب حيث تسمع صرخات التعذيب للمعتقلين واضحة للنزل الجامعي المقابل له، وكأنها رسالة ترهيب يومية لجيل الشباب السوري وخاصة المتعلم والمثقف والمتعطش لبناء سوريا المتحررة من كل أشكال الدكتاتورية.
فأينما توجهنا في دمشق نجد بناء ضخماً يحمل شعار “حزب البعث” وصور الطاغية المخلوع، بينما تحكي رسومات وُجدت على جدران هذا البناء الداخلية قصصاً للموت تحت التعذيب ودون محاكمات، حتى ارتبط اسم هذه الأفرع الأمنية بقوائم لا تنتهي من حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب الممنهج والقتل، واختفى في أقبيته المظلمة مئات الآلاف من السوريين الذين كانوا يسمونها أجهزة الرعب” لشدة أهوال ما يعانيه من فيها.
مسالخ بشرية وانتهاك ممنهج لحرمة الإنسانية هو التوصيف الأبلغ لحال السجون والمعتقلات التي كان يمارس فيها النظام البائد طقوس ساديته الدموية من تعذيب وقمع بحق المعتقلين على امتداد 54 عاماً من حكم الطغمة الأسدية المجرمة.
حقائق مروعة تكشفت بعد التحرير عن السجون والمعتقلات التي كانت تُستخدم كأدوات للقمع والترهيب أصبحت هذه الأمكنة التي تم السيطرة على العديد منها ويتوالى اكتشافها منذ بدء التحرير شاهدة على الفظائع المروعة والتعسف الإجرامي الذي ارتكب بحق المعتقلين، وأكبر برهان على دموية النظام البائد، إضافة إلى شهادات ناجين من التهلكة الأسدية الذين كشفوا ما تعرضوا له من تعذيب وانتهاك للانسانية قام به مجرمو أفرع القمع في النظام البائد، مثل (إدارة المخابرات الجوية، شعبة المخابرات العسكرية، شعبة الأمن السياسي، وإدارة المخابرات العامة).
عنف وإذلال
ووفقاً لما وثقته منظمة “هيومن رايتس ووتش” تمتعت تلك الأجهزة بصلاحية اعتقال الناس من دون إذن قانوني وامتلكت سلطة تجبرية لحرمان المعتقلين من حقوقهم الأساسية، ويتبع لكل جهاز قمعي “أمني” مقر مركزي في دمشق وفروع متعددة تنتشر على كامل التراب السوري، وضمت معظم أفرع أمن النظام مراكز اعتقال مختلفة الأحجام، وشمل العديد منها أقبية وسراديب سرية كان يتم فيها احتجاز المعتقلين والتنكيل بهم بعيداً عن الأنظار. وأشرف على معظم مراكز الاحتجاز السرية قوات من النظام السوري البائد، وشاركها في ذلك مليشيات محلية مثل جيش الدفاع الوطني واللجان الشعبية، التي مارست بحق المعتقلين العنف والإذلال تفوق تلك التي مورست في السجون النظامية، وعادة ما كان يمارس مسلسل الابتزاز لذويهم وطلب مبالغ مالية كبيرة مقابل معلومة عنهم.
ووفقاً لتقرير منظمة العفو الدولية الصادر في السابع من شباط 2017 بعنوان “المسلخ البشري”، تضمنت هذه الأساليب الضرب المبرح والحرمان من النوم والطعام، والصعق الكهربائي.
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، شملت عمليات الخطف والاعتقالات منذ اندلاع الثورة وحتى آب 2024 نحو 158 ألف مواطن، من بينهم أكثر من 5 آلاف طفل وما يزيد على 10 آلاف امرأة.
ولأن سياسة كم الأفواه وسلب الحريات كانت عصب بقاء النظام البائد، وبهدف استيعاب الأعداد الضخمة من المعتقلين، حوّل النظام الثكنات العسكرية والمدارس والملاعب وبعض الأبنية والفيلات إلى مراكز احتجاز غير نظامية، وأنشأ مراكز اعتقال وسجون سرية للتغطية على جرائمه وانتهاكاته لحقوق الإنسان.
وكشفت تقارير لمنظمات حقوقية سورية ودولية عن انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإخفاء القسري والتعذيب الجسدي والنفسي الشديدين، منها: الضرب المبرح والتعذيب باستخدام الكهرباء، والوضعيات المنهكة، وانتزاع الأظافر، والإعدام الوهمي، وكسر العمود الفقري والتسبب بإعاقات دائمة.
جثث متفسخة
وكان السجانون يبقون جثث الموتى في غرف السجناء أياماً حتى تتفسخ، ما يؤدي إلى تفشي أمراض خطيرة بين المعتقلين، وحسب التقارير الحقوقية أيضاً ذكرت “الجزيرة نت” أن زنازين الموت لم تخضع لمعايير إنسانية، فقد عانت من اكتظاظ شديد وافتقرت للنظافة، فضلاً عن نقص الغذاء والماء والحرمان من الرعاية الطبية والنوم.
– مع بداية الثورة السورية عام 2011 تغولت هذه الأفرع الأمنية وتضاعف إجرامها وباتت أداة النظام للدفاع عن وجوده أمام هتافات الحرية، وتحولت الى منظومة متكاملة للقمع ومصادرة كلمة الشعب السوري، وباتت وجه النظام المرعب والمجرم والذي أودى به إلى جحيم سقوطه على الرغم أنها تولت زمام القتل والترويع حماية لكرسيه وتثبيت أركانه 54 عاماً.
– هذه الأفرع الأمنية بممارساتها الإجرامية الفاضحة كانت محط استهجان كبير على نطاق عربي وعالمي لدرجة أن دراسات عربية وغربية تحدثت عنها وقدرت عدد العاملين فيها بما فيهم المخبرون بنحو 300 ألف مجرم بما يعادل جيشاً بأكمله.
– ووفقاً لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، كانت هناك 4 أجهزة رئيسية تتقاسم المهام القمعية، هي: جهاز المخابرات العسكرية (الأمن العسكري)، وجهاز المخابرات الجوية، وجهاز المخابرات العامة (ويُعرف أيضاً بأمن الدولة) وجهاز الأمن السياسي، ويقع المقر الرئيسي لكافة الأجهزة في العاصمة، ويتبعها العديد من الفروع التي تُعد صورة مصغرة عن الإدارة العامة، وبالإجمال تتفرع هذه الأجهزة إلى 48 فرعاً أساسياً، إضافة إلى أفرع أصغر في المحافظات، ناهيك عن الفروع السرية غير المعروفة.
– مارست هذه الأجهزة عمليات قتل وتعذيب منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي المسؤولة عن مجازر عدة منها مجازر سجن تدمر، ومجازر وعمليات القتل الجماعي في سجن صيدنايا، وبعد اندلاع الثورة تحول نشاطها للداخل وتفرغت لقتل السوريين وترهيبهم على كامل تراب سوريا الذي شهد عذابات أبنائه، وباتت الفروع التابعة للأجهزة الأمنية مصدر قلق داخلي وعربي ودولي أيضاً، وبات كل فرع منها يحمل رقماً مرعباً في ذاكرة السوريين بمجرد سماعه، وبعض تلك الأرقام، يعرف بأن المعتقل الداخل إليها مفقوداً وكثير منها لا يخرج منه أحد أبداً.
مسلخ بشري
فمثلا الفرع 235 أو ما يعرف بفرع فلسطين، أحد أسوأ وأبشع الفروع الأمنية التابعة للمخابرات السورية، تأسس عام 1969، ليكون حلقة وصل بين النظام السوري والمنظمات الفلسطينية في سوريا، لكنه تحول لاحقاً إلى مسلخ بشري، ومقر لزنازين تحت الأرض، وصلت إلى حد إرسال الولايات المتحدة لمعتقلين بعد أحداث 11 أيلول إليه لانتزاع اعترافات بسبب وحشية العاملين فيه.
يعتبر فرع فلسطين من أكثر فروع المخابرات السورية إخفاء للمعتقلين، ومورست فيه أبشع عمليات التعذيب حتى الموت والاغتصاب للمعتقلين رجالاً ونساء، كما كشفت شهادات لمعتقلين خرجوا منه. وهناك أيضاً الفرع 248 “التحقيق العسكري” وهو بمثابة هيئة التحقيق الرئيسية لجهاز الأمن العسكري حيث يعتبر ثاني أسوأ فرع في الجهاز من حيث الانتهاكات بعد فرع فلسطين، يعتبر من أكبر الفروع الأمنية التي قتل فيها آلاف السوريين والعرب ممن دخلوه بسبب تأييدهم وانخراطهم بالثورة السورية، وظهر رقمه على أجساد الضحايا الذين سرب “قيصر” صورهم إلى العالم.
أما الفرع 215 أو ما يعرف رسمياً بـ”سرية المداهمة والاقتحام”، كان يطلق عليه اسم “هولوكوست سوريا”، بسبب أساليب التعذيب البشعة المستخدمة فيه، وحجم القتل الذي كان يمارس داخله جراء وحشية التعذيب، وقد وثقت منظمات حقوقية سورية بأنه كان من أكثر الفروع قتلاً للمعتقلين المحتجزين فيه، مقارنة بالعدد الذي يفرج عنه. في حين أن جميع موظفي الدولة السورية كانوا يعرفون الفرع 251، أو ما يعرف بـ”فرع الخطيب”، وهو فرع أمني مرعب يتبع جهاز المخابرات السورية، ويختص بالشؤون الداخلية الخاصة بالسوريين وتحديداً العاملين في مؤسسات الدولة، ويحتوي على زنازين تحت الأرض، وكان عبارة عن مسلخ للتعذيب والقتل بطرق بشعة، كما كشفت الصور التي سربها قيصر.
فوق المقابر
أما فرع المخابرات الجوية أسوأ فروع القمع الذي مارسه نظام الطاغية فيقسم إلى 6 مناطق وهي فرع المنطقة، ويغطي مدينة دمشق وريفها ومقره مدينة دمشق، وفرع المنطقة الجنوبية ويغطي درعا والقنيطرة والسويداء ومقره مدينة دمشق أيضاً. ثم فرع المنطقة الوسطى ويغطي حمص وحماة ومقره مدينة حمص، وفرع المنطقة الشمالية ويغطي حلب وإدلب ومقره مدينة حلب، وفرع المنطقة الشرقية ويغطي دير الزور والرقة والحسكة ومقره مدينة دير الزور، وأخيراً فرع المنطقة الساحلية ويغطي اللاذقية وطرطوس ومقره مدينة اللاذقية، ولهذه الفروع أقسام تتوزع في المحافظات التي لا يوجد فيها المقر الرئيسي لهذه الفروع. وهناك الكثير من الفروع الأمنية التي ادمت قلوب الآباء والأمهات حين كان عناصرها يقتادون الشباب السوري والشابات من جامعاتهم وأماكن عملهم بمجرد أنهم حلموا بالحرية والانعتاق من نظام كان يحاول الحفاظ على كرسيه فوق المقابر الجماعية والمجازر بحق أبناء شعبه.
لا تكفينا مجلدات لتوثيق ماقام به النظام البائد من ممارسات قمعية وإجرامية ولاتتسع المقالات لنقل الصور كاملة عما كابده المعتقلون من عذابات وما استخدمه الديكتاتور من وسائل إجرامية في معتقلاته وأقبية فروعه الأمنية، فكلّ فرع قمعي كان شاهداً على وحشية استشرت، وإجرام استفحل ليطفئ النور في أحداق المعتقلين، ولكلّ معتقل حكاية ألم وعذاب لن تمحى من ذواكر السوريين، وحفرت عميقاً في وجدانهم وأدمت عيونهم وأفئدتهم.