ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير علــي قـاسـم:
رسمت الانتخابات التركية حداً فاصلاً بين منحنيين يتباعدان كلما أوغلت الأحداث والتطورات في تخيّل الوجهة القادمة لتركيا، أو كلما أمعنت في افتراض مشهد السيناريو التركي بحلّته الجديدة،
واحتمالاته المفتوحة على أهواء وتمنيات تتصارع على الافتراض أكثر مما تبني التحولات المنتظرة على وقائع تدفع إلى المبالغة في الهوّة التي أحدثتها تلك الانتخابات، وفي الفراغ الحاصل بين أمر واقع وتحول ينازع للبقاء.
لم يكن الترنّح الذي عانت منه الإخوانية منذ سقوط مرسي في مصر، وما تلاه من تداعيات في تونس وغيرها، كافياً لحسم الانكفاء الذي واجهته تباعاً، وإن كان يؤشر إلى الحقيقة الواضحة بأن المشروع فقدَ فرصته الذهبية التي أتاحتها له سياسة الخراب والدمار التي عمّمتها واشنطن في المنطقة.
وكان التعويل منذ ذلك الحين مبنياً على المظلة السياسية التي وفّرتها حكومة العدالة والتنمية واستمرت بها، بل حاولت أن ترمّم شواهد أفولها القادم بمشاهد من التغطرس والحماقة في الحشد الديني والطائفي خلفها على أساس أن التعويض لا يزال ممكناً ومتاحاً.
تحت هذا العنوان اقترفت تركيا أقصى درجات الموبقات السياسية، في ظل عربدة بالغت في التشفّي من دول المنطقة، وراهنت أميركا على اعتمادها المحرّك لتأجيج نيران الفتن والصراعات، رغم مشاهد الخلاف الجزئية على الأولويات، ورسمت في كثير من الأحيان لائحة من الأسئلة المؤجلة حول الدور التركي ليس من بوابتها الإخوانية فحسب، بل في إطار المكوّن الأطلسي والجعبة الغربية التي ادّخرت فيها ما تراكم من سنوات حقبة التفرد الأميركي.
لكن.. كل هذا يبدو أنه عرضة للانهيار والانحلال، بدليل أن الانكفاء هنا لن يكون مقتصراً على الحالة التركية ورمزيتها في قيادة الظاهرة الإخوانية بلبوسها الجديد، بقدر ما ستحمله من متغيّرات تعاكس الموجة العاتية من الدور التركي التخريبي الذي تحوّل إلى بؤرة للوجود الإرهابي في المنطقة، حيث سيكون التحدي الأخطر الذي يواجه المنطقة والعالم بما فيه تركيا كواحدة من نقاط المواجهة الساخنة مع تركاته، وما راكمه من إرث شكّلت حواضن ومرتكزات من الصعب تجاوزها.
عند هذه النقطة قد تكون الانتخابات التركية الحالة الأكثر دلالة على الانعطاف العالمي في العلاقة مع الإرهاب، حين كانت تركيا ولا تزال تقود مرتسماته إقليمياً ودولياً، وشكّلت على مدى السنوات الماضية رأس الحربة التي مارست دور العرّاب في العلاقة بين الغرب والإخوانية بوجوهها ونماذجها المختلفة، ووضعت معايير محددة تم التعويل عليها.
الواضح أن تركيا بعد الانتخابات لم تعد ذاتها التي كانت قبلها، والدور الذي تزعمت عبره قيادة الإخوانية كمشروع بأبعاد إقليمية وعالمية، قد فقد صلاحيته أو تعثّر، بحكم ما سيطرأ من تغيير في أجندات العلاقة التي ستجعل أي حديث محكوماً بما ستؤول إليه التركيبة السياسية التركية، والتي لم يعد فيها العدالة والتنمية متفرّداً بالحياة السياسية التركية وهذا أضعف الإيمان.
فالتنمّر التركي ينزوي إلى الحلبات الخلفية، وتحلّ مكانه حالة تركية منشغلة بذاتها، وغير قادرة على التفرّغ للأدوار التي تقتضيها الزعامة الإخوانية، فيما تواجه على المقلب الآخر تحديات في الجوار وفي العلاقة مع أوروبا وفي العلاقة البينية بين أحزابها، ما يجعلها ساحة للتجاذبات السياسية التي ستحد بالضرورة من نفوذها على مراكز دعم الإرهاب الإقليمية، كما ستقلل من عوامل التعويل الغربي على موقعها المركزي في المهمة الوظيفية للإرهاب بلائحته الجديدة.
ما يحسم الجدل في التداعيات أن أفول نجم الإخوانية المرتبطة بالذاكرة الجمعية للمنطقة يتسارع في انكماشه إلى المستوى الذي بات يواجه فيه احتمالات الانزلاق إلى زوايا وسراديب التهديد بتفجير الساحة التركية، لتتحوّل تركيا إلى ساحة جذب للصراع مع الإرهاب وذيوله المتجذّرة في البيئة التركية خلال الحقبة الأردوغانية، وما تمليه من شروط صراع جديدة وقواعد اشتباك مغايرة لما رسمته المرحلة الماضية، ومتناقضة مع هوية الصراع وتوجهاته.
فالمؤكد أن تركيا ستكون مضطرة لاستبدال ثوبها ودورها وحتى موقعها في ساحة المواجهة، وربما الخندق الذي تمترست فيه حكومة العدالة والتنمية، لتصبح جزءاً من حالة تورية سياسية غير قابلة للهضم، قبل أن تكنس من زواريب سياستها ما راكمته تلك الحقبة وما زرعته في زوايا المواجهة الإقليمية مع الإرهاب.
قد يكون من المبكر الحديث عن هوية سياسية جديدة لتركيا، لكن ما هو مؤكد إلى حدّ الجزم أن تلك الهوية لم تعد حكراً على الإخوانية، ولم يعد بمقدورها أن تكون القاطرة المعتمدة من الإرهاب الغربي والعالمي، كما لن تكون الموجه بعد اليوم لخلايا الإرهاب الإقليمي والدولي، وليست وجهته المفضلة أو خياره المحكوم عليه، أو المعبر إلى حيث يزرع خرابه ودماره، وإن بقي خيار الرسم التشبيهي مطروحاً للحالة التركية على الأقل حتى إشعار آخر..!!.
a.ka667@yahoo.com