الثورة – وفاء فرج:
استعادة منظومتنا الإنتاجية وإعادة بنائها باتا أمراً ملحاً وضرورياً للخروج من النفق المظلم والتخلص من الكثير من الآثار الاقتصادية والاجتماعية، وبمجملها يعاني منها مجتمعنا نتيجة انهيار اقتصاده بفعل الحرب والعقوبات الاقتصادية والتدمير والتخريب.
خبراء اقتصاديون وصناعيون وتجار، رأوا أن عملية إعادة إحياء منظومة الإنتاج المحلية في سوريا تسير بشكل “خجول”، و أن تجاوز هذه المرحلة يتطلب إصلاحات تشريعية ومالية فورية، تبدأ بإزالة الجمارك عن المواد الأولية وتخفيض رسوم التأمينات الاجتماعية، والتركيز على الصناعات التصديرية لضمان استقرار سعر الصرف.
تنشيط الصناعة
رئيس غرفة تجارة ريف دمشق، الدكتور عبد الرحيم زيادة، ركز على ضرورة العمل الفوري لتنشيط ودعم الصناعة الوطنية وإزالة كافة المعوقات التي تعيق استمرارها، مشيراً إلى أن النتائج الإيجابية للعقود الاستثمارية المتفق عليها قد تتأخر في الظهور على الاقتصاد الوطني.
وحدد الدكتور زيادة عدة محاور أساسية لمساعدة الصناعة الوطنية وتحقيق ذلك من خلال إزالة كافة الرسوم الجمركية المفروضة على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج، واقترح وضع رسوم جمركية على السلع والمنتجات المستوردة بدلاً منها، لضمان استمرار رفد الخزينة بالدخل، كما دعا إلى السماح بالإدخال المؤقت للمواد الأولية لصالح المصانع المصدّرة، وإزالة الرسوم المفروضة على التصدير.
وبين زيادة أهمية دعم الصناعات المتوسطة والصغيرة، التي تشكل أكثر من 75 بالمئة من الإنتاج المحلي، وذلك عبر إعفاء موادها الأولية من الجمارك، حتى تلك التي يتم شراؤها من تجار مستوردين.

إصلاحات
الدكتورة زيادة رأى أنه لابد من إصدار قانون ضرائب جديد يتضمن فترات سماح وتسهيلات جيدة في نسبة الضريبة، تكون مشجعة للصناعات الوطنية، ومعالجة موضوع التأمينات الاجتماعية بتخفيض نسبة رسوم التأمينات الاجتماعية المفروضة على العمال بحيث لا تزيد بمجملها على 18بالمئة، وتدفع مناصفة بين صاحب العمل والعامل، أسوة بدول الجوار والدول الصديقة.
ونوه إلى ضرورة التعاون مع الغرف التجارية والصناعية للتأكد من إزالة الرسوم الجمركية على المواد الأولية، وإشراك هذه الغرف في إعداد القرارات ذات الصلة، كما دعا إلى مشاركة وزارة الاقتصاد والتجارة في المعارض الدولية والسماح للشركات الوطنية بالمشاركة ضمن جناحها بأسعار مخفضة، والعمل مع الدول المجاورة والصديقة على تسهيل دخول المنتجات السورية إلى بلدانهم.
وختم الدكتور زيادة بالتأكيد على أن اتخاذ هذه الإجراءات سيكون عامل جذب للمستثمرين السوريين والعرب والأجانب لإقامة مشاريع جديدة، مشيراً إلى أن دعم الصناعة الوطنية بشتى الوسائل هو عامل أساسي في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
“تذليل المعوقات”
النائب السابق لمجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، لؤي نحلاوي، يرى أن عملية إعادة إحياء منظومة الإنتاج المحلية في سوريا تسير بشكل “خجول”، مشيراً إلى أن التحدي الأكبر يكمن في الموازنة بين الحفاظ على الصناعات المتبقية واستقطاب صناعات جديدة تتطلب رؤوس أموال ضخمة وتكنولوجيا متطورة، مشدداً على ضرورة تحديد الأولويات والعمل على مبدأ “الأهم فالأهم”، معتبراً أن الصناعات التصديرية هي القاطرة الحقيقية للتعافي.
التصدير
نحلاوي حدد أولويات العمل بالتركيز على الصناعات التي تمتلك إمكانية التصدير، مؤكداً أن تقوية هذه الصناعات ستؤدي إلى تدفق مستقر للقطع الأجنبي، وهو ما يضمن استقرار سعر الصرف على مدار العام، بدلاً من الاعتماد على الرافد الموسمي للسياحة والمغتربين.
وقال: “لا نريد أن ينخفض سعر الصرف بالصيف ويرتفع في الشتاء، وإنما نريد أن يكون هناك تدفقات تغطي احتياجات المستوردات من دون الضغط على الخزينة”.
مطالبات بتذليل المعوقات
ورفض نحلاوي مفهوم “الدعم” المالي المباشر، قائلاً: نحن لا نريد دعماً وإنما نريد تذليل معوقات تبدأ من مراجعة التعرفة الجمركية على مدخلات الإنتاج، التي ترفع التكلفة الصناعية بشكل كبير، ودعا إلى الاستفادة من تجارب الدول المجاورة، مثل الأردن ولبنان اللتين تمتلكان صادرات صناعية ضخمة، مشيراً إلى أن مدخلات الإنتاج في هاتين الدولتين تكاد تكون معفاة أو صفرية الجمارك، مبيناً أنه إذا عملت سوريا بالحد الأدنى من المعايير التي يعمل بها الجوار، فإنها ستكون أقوى منهم، نظراً لأن تكلفة العمالة في سوريا ما زالت منخفضة جداً.
ميزة العمالة
وشدد نحلاوي على ضرورة استغلال ميزة العمالة المنخفضة لتشغيل أكبر قدر ممكن من الأيدي العاملة، مؤكداً أن تقوية سوق العمل ستؤدي بشكل طبيعي إلى ارتفاع الأجور.
ودعا إلى تغذية الأسواق العربية (العراق، الأردن، لبنان، السعودية) لاستعادة الثقة، محذراً من أن المستوردين الذين اتجهوا نحو تركيا ومصر والأردن والصين، يحتاجون بين سنة وسنتين ليعتمدوا على سورية بشكل كبير في مستورداتهم، لأنهم ما زالوا يخشون انقطاع سلسلة التوريد السورية. وختم نحلاوي بالتأكيد على أن التركيز على الصناعات التصديرية هو الطريق الصحيح والأسرع لوضع القدم على طريق التعافي، لأنه هو الذي يدر القطع الأجنبي ويدعم الخزينة. النائب السابق لمجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، أوضح أن تعزيز المنظومة الإنتاجية في سوريا يتطلب استراتيجية تبدأ بتأمين سوق التصريف وتمر بإعادة دراسة شاملة لبيئة الأعمال، مشدداً على ضرورة أن تلعب الحكومة دور “المايسترو” لتنسيق التشريعات المتضاربة بين الوزارات.
وأشار الحلاق إلى أن المنظومة الإنتاجية تحتاج أولاً إلى سوق تصريف قادر على المنافسة، مطالباً بدعم المعارض الدولية لتمكين الصناعيين من عرض منتجاتهم وتقييم تنافسيتها عالمياً، خاصة وأن الصناعة السورية ما زالت تتمتع بميزة “أجر العامل المنافس”. وحذر من التضارب الواضح في التشريعات، متسائلاً عن كيفية التوفيق بين دفع الصناعي تأمينات اجتماعية بنسبة 24 بالمئة عن الرواتب، ثم دفع ضريبة دخل على المبيعات، مؤكداً أن هذا التضارب بين وزارات المالية والشؤون الاجتماعية والتجارة الداخلية يمثل قضية شائكة.
وانتقد الحلاق غياب التشاركية الحقيقية، مستشهداً بقرار وزير الاقتصاد رقم 758 المتعلق بالأوزان، الذي صدر دون استماع، مما أدى إلى “وقف السوق” وإرباك الصناعيين. ويرى الحلاق أن الحل يكمن في أن تكون الدولة هي “المايسترو” الذي يستمع إلى احتياجات ومشاكل الصناعيين حسب فئاتهم، ويرفض استمرار حالة “تقاذف الكرة” وإلقاء المسؤولية على طرف واحد (تجار، صناعيون، حكومة، مواطن). مؤكداً أن أي قرار اقتصادي يجب أن يراعي التوازن بين القطاعات، وأن القضية هي قضية تشاركية يجب أن تخرج بحلول متكاملة تناسب المجتمع كله. واعتبر أن البوصلة الحقيقية لعمل الجميع يجب أن تكون “المستهلك”، داعياً إلى التناغم بين الأطراف كافة لتقديم حلول تخدمه، وخلص إلى أن أننا مازالنا ندور في دوامة “حل المشاكل”. وطالب الحلاق بضرورة وجود خارطة عمل واضحة وتشريعات متناغمة لمعالجة أسباب المشاكل الجذرية، مثل التهرب الضريبي والتهريب الجمركي، مؤكداً أن كل معضلة لها أهلها الذين يجب أن يرسموا الخارطة الاقتصادية.

بناء المنظومة الإنتاجية
الخبير التنموي أكرم العفيف أكد أن الشرط الأساسي والأول والأخير لإعادة بناء المنظومة الإنتاجية في سوريا هو “الأمن والأمان”، مشدداً على أنه لا يمكن الحديث عن إنتاج أو بيئة إنتاجية أو منظومة اقتصادية دون استقرار كامل. وأوضح العفيف أن باقي الخطوات تأتي في المرتبة التالية بعد تحقيق الأمن، وتشمل: تأهيل البنية التحتية اللازمة للصناعات، وإبرام اتفاقات خارجية وفتح أسواق جديدة، و التركيز على جودة الإنتاج ليكون مميزاً وقادراً على المنافسة والعمل على الإنتاج التعاقدي، إذ تلتزم جهات محددة بأخذ الكميات المنتجة من المعامل والمنشآت والأراضي. وخلص العفيف إلى أن هذه الخطوات يجب أن تُحددها أنظمة وقوانين واضحة، لكنها تبقى مرهونة بالشرط الأساسي: “إذا ما في أمن وأمان ما في لا إنتاج ولا بيئة إنتاجية ولا منظومة إنتاجية”.
رفع الدخل
ويرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن الاقتصاد السوري يعاني من انهيار غير مسبوق، فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي من نحو 60 مليار دولار عام 2010 إلى ما يقارب 5 مليارات دولار في عام 2024، مشيراً إلى أن معالجة هذا الانكماش الحاد يبدأ من رفع دخل المواطنين ليكون المحرك الأول لتحفيز الدورة الاقتصادية. ووصف الدكتور قوشجي الواقع الاقتصادي الحالي بأنه يعكس سنوات من الحرب والعقوبات وتعطل البنية المؤسسية، أبرزها ، شلل الجهاز المصرفي، الذي لا يضطلع بدوره الطبيعي في تمويل الاستثمار أو تحريك عجلة الإنتاج، إضافة إلى أن هناك كتلة نقدية خارج النظام، حيث أن معظم السيولة مخزنة في المنازل، مما يعمق الانكماش ويضعف أدوات السياسة النقدية. منوهاً إلى تدني دخل الفرد، فمتوسط دخله لايتجاوز 50 دولاراً شهرياً، وهو ما يعكس ضعف القدرة الشرائية، وهجرة رؤوس الأموال، فنسبة كبيرة من الأموال السورية هاجرت إلى الخارج.
بوابة التحفيز
وشدد الدكتور قوشجي على أن رفع دخل المواطنين هو نقطة الانطلاق الجوهرية، لأن الدخل هو المحرك الأول للاستهلاك، والاستهلاك هو بوابة الطلب الكلي الذي يدفع عجلة الإنتاج ويغري المستثمرين بالدخول. وأوضح أن رفع الدخل يحقق أهدافاً متعددة، منها، تحفيز الاستهلاك المحلي، مما يخلق طلباً حقيقياً في السوق، وتنشيط الإنتاج المحلي، حيث تدفع زيادة الطلب المنتجين لتوسيع أعمالهم وخلق فرص عمل، وجذب الاستثمارات الأجنبية، التي تبحث عن سوق نشطة ذات قدرة شرائية متنامية.
خطوات عملية واقترح الدكتور قوشجي مجموعة من الخطوات العملية لرفع الدخل وتحفيز الاقتصاد تشمل، إصلاح الجهاز المصرفي، وإعادة هيكلته لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتحفيز القطاعات الإنتاجية،عبر دعم مباشر وتسهيلات ضريبية للزراعة والصناعة والخدمات المحلية وإعادة الثقة بالبيئة الاستثمارية، من خلال قوانين شفافة وحماية الملكية وتسهيل الإجراءات، وتشجيع عودة رؤوس الأموال المهاجرة، عبر ضمانات قانونية وحوافز ضريبية.
وختم الدكتور قوشجي بالتأكيد على أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى إعادة بناء الثقة قبل إعادة بناء الأرقام وأن هذه الثقة تبدأ من المواطن وقدرته على العيش بكرامة والمشاركة في دورة الإنتاج.