الثورة – ميساء العجي:
في عالمٍ يتسارع فيه التطور العلمي والتقني، لم يعد التفوق مقتصراً على الحفظ والتلقين، بل أصبح التميز والإبداع عنوان المرحلة وركيزة التقدم في المجتمعات الحديثة، فالتميّز ليس مجرد تفوقٍ دراسي، بل هو منهج تفكيرٍ وسلوكٍ واعٍ يسعى إلى اكتشاف الجديد وتجاوز المألوف، أما الإبداع فهو القدرة على تحويل الأفكار إلى إنجازات تُسهم في بناء الإنسان والوطن.

ومن هذا المنطلق، باتت المؤسسات التعليمية والعلمية في سوريا، وفي مقدمتها هيئة التميز والإبداع، تعمل على رعاية المواهب الشابة واحتضان الطاقات المبدعة، لتكون منارةً للعلم والمعرفة، ومختبراً حقيقياً لإعداد جيلٍ يقود المستقبل بعلمه وفكره.
الفيزياء.. لغة الإبداع
المدرّب الحسن خضور – مدرب الأولمبياد العلمي السوري في مادة الفيزياء يتحدث للثورة قائلاً: يُعدّ التميز والإبداع ركيزتين أساسيتين في بناء جيلٍ قادر على النهوض بالوطن، ومواكبة التطور العلمي والمعرفي في عالم يتسارع بخطا لا تهدأ.
ومن بين المبادرات التي تجسّد هذه الرؤية على أرض الواقع، يبرز الأولمبياد العلمي السوري بوصفه منبراً للعلم والمعرفة، ومساحةً يلتقي فيها الطموح بالجد، والفكر بالبحث، والجهد بالإصرار.

تحت مظلة هيئة التميز والإبداع، ينطلق هذا المشروع الوطني ليغدو مدرسة علمية فريدة تُعنى باكتشاف الطاقات الشابة وصقلها، وتفتح أمامها أبواب المنافسة في أرقى الميادين المحلية والدولية.
من المنافسات المحلية إلى المحافل العالمية
يوضح المدرّب خضور، في حديثه لـ«الثورة» أن الأولمبياد هو منظومة متكاملة من الاختبارات والمنافسات العلمية التي تستهدف مختلف المراحل الدراسية، تبدأ المراحل من المنافسات المحلية على مستوى المناطق، ثم تتدرج إلى مستوى المحافظات، وصولًا إلى التصفيات النهائية على مستوى القطر.

ويقول خضور: «إنّ الأولمبياد العلمي السوري لا يقتصر على كونه مسابقة، بل هو رحلة علمية متكاملة، هدفها بناء عقل علمي ناقد، قادر على التحليل والاستنتاج والابتكار، بما ينسجم مع توجهات الدولة نحو رعاية الموهبة ودعم الكفاءات الشابة».
الفيزياء.. علم التفكير لا التلقين
يرى المدرّب خضور أنّ مادة الفيزياء تحمل خصوصية مميزة ضمن اختصاصات الأولمبياد، كونها تُعنى بتنمية مهارات التفكير المنطقي والتحليل الرياضي، ويضيف: «الفيزياء ليست معادلات فحسب، بل هي أسلوب تفكير وطريقة لفهم الكون، فالطالب الذي يتقن مبادئها يصبح قادراً على قراءة الظواهر وتحليلها بشكل منهجي، وهذا ما نسعى إليه في التدريب».
ويتابع قائلاً: «من خلال الأولمبياد، نحاول أن نُعلّم الطالب كيف يطرح السؤال الصحيح قبل أن يبحث عن الجواب، وهذه هي نقطة التحوّل في العقلية العلمية التي نريد ترسيخها».

مراحل التدريب.. رحلة من الشغف والجهد
يشير خضور إلى أن عملية التدريب تمر بمراحل دقيقة، تبدأ بعد التصفيات الأولى وتستمر حتى لحظة اختيار أعضاء الفريق الوطني، ويقول: نحن نعمل على تدريب الطلاب ضمن ملتقيات علمية متخصصة، بإشراف أساتذة جامعيين وخبراء في الفيزياء. والتدريب يتدرج من الأساسيات إلى المستويات الجامعية، إذ نتناول مسائل علمية عميقة تتطلب تركيزاً عالياً ومهارات تحليلية متقدمة.
ويؤكد خضور أن التدريب لا يقتصر على الحصص النظرية فحسب، بل يتضمن تطبيقات عملية وتجارب مخبرية ضمن المخابر الجامعية، ما يمنح الطالب خبرة ميدانية حقيقية توازي ما يُدرّس في أرقى الجامعات.
ويضيف خضور: إن الطالب الذي يتدرّب في الأولمبياد يعيش تجربة علمية مختلفة تماماً، فهي ليست دراسة منهجية تقليدية، بل هي بحث مستمر عن المعرفة، وإصرار على التفوق.
من الصغار إلى الفريق الوطني
ويبين خضور آلية الانتقال بين المراحل قائلاً: «الأولمبياد العلمي السوري يُقام على موسمين؛ الأول في شباط لطلاب المرحلتين الابتدائية والإعدادية (الصغار واليافعين)، والثاني في أيلول لطلاب الصف العاشر.
من خلال هذه المراحل، نتابع المتفوقين ونعمل على تأهيلهم للارتقاء إلى المستويات الأعلى، ويضيف خضور: الطالب الذي يحقق ميدالية في فئة اليافعين، سواء كانت ذهبية أو فضية أو برونزية، يُمنح فرصة للمشاركة في منافسات الصف العاشر، حتى وإن كان أصغر عمراً من زملائه، ما يمنحه ميزة تراكمية في الخبرة والمعرفة».
ويؤكد خضور أن هذا النظام المتكامل «يصنع نخبة من الطلاب القادرين على المنافسة في المسابقات الدولية، بعد خضوعهم لدورات مكثفة داخل المراكز العلمية التابعة لهيئة التميز والإبداع».
حيدرة إسماعيل.. نموذج للتفوق والإصرار
يستذكر المدرّب خضور أحد طلابه المتميزين، الطالب حيدر إسماعيل من ثانوية المتفوقين الأولى بدمشق، فيقول: «حيدر بدأ مشواره في مرحلة اليافعين وهو في الصف السابع، وتمكن من الحصول على ميدالية فضية على مستوى القطر، الأمر الذي أهّله للمشاركة في منافسات الصف العاشر وهو في الصف الثامن.
وبرغم الفارق العمري، استطاع أن يحقق ميدالية برونزية على مستوى سوريا، وينضم إلى الفريق الوطني للفيزياء».
ويضيف بفخر: «هذه النماذج تزرع الأمل في نفوسنا جميعاً، لأننا نرى في طلابنا قدرة لا حدود لها على الإبداع والتفوق حين تتاح لهم البيئة المناسبة والدعم العلمي الحقيقي».
وعن أبرز التحديات التي تواجه المدربين والطلاب، يقول خضور: «من التحديات التي نصادفها محدودية الوقت وصعوبة الجمع بين الدراسة النظامية والتدريب المكثف، إضافة إلى نقص بعض الإمكانيات المخبرية في بعض المحافظات.
لكننا نعوّض ذلك بالعزيمة والابتكار واستخدام المنصات الإلكترونية لتبادل المعرفة».
ويتابع: «لدينا فرقا تدريبية تطوعية مؤلفة من أساتذة جامعيين وطلاب سابقين في الأولمبياد، يقدمون خبراتهم مجاناً عبر مجموعات واتساب وتلغرام، أو من خلال جلسات مباشرة في كليات العلوم ومدارس المتفوقين».
مشيراً إلى أن «الروح التطوعية في الأولمبياد تشكل سرّ نجاحه واستمراريته، لأنها تعبّر عن إيمان حقيقي بالعلم كقيمة وطنية».
أثر الأولمبياد على الطلاب والمجتمع
يؤكد المدرّب خضور أن المشاركة في الأولمبياد ليست عبئاً على الدراسة المدرسية، بل مكملًا لها.
ويقول: «الأولمبياد يساعد الطالب على تنظيم وقته وتطوير أسلوب تفكيره، فيتعلم أن يبحث ويستنتج بدلاً من الحفظ، وهذا ينعكس إيجاباً على تحصيله الدراسي».
ويضيف: «كثير من الطلاب الذين تدرّبوا في الأولمبياد أصبحوا فيما بعد من الأوائل في الجامعات، وبعضهم التحق ببرامج بحثية متقدمة داخل سوريا وخارجها، ما يدل على أن هذه التجربة تؤسس لمسار علمي متين».
ويتابع: «حتى لو لم يصل الطالب إلى الفريق الوطني، فإن ما يكتسبه من مهارات تحليلية ومنهجية يجعله أكثر ثقة.
ويرى خضور أن الأولمبياد العلمي السوري لا يقتصر على إعداد نخبة من المتفوقين، بل يتجاوز ذلك إلى ترسيخ ثقافة التفكير العلمي في المجتمع.
ويقول: «علينا أن نعرّف الطلاب منذ المراحل المبكرة بمعنى الأولمبياد وأهدافه، لأن المعرفة المبكرة تصنع الشغف، والشغف يصنع التميز».
ويضيف: «أتمنى أن نرى في المستقبل زيادة في عدد المشاركين، خصوصاً في محافظات مثل دمشق التي تضم طاقات مبدعة تحتاج فقط إلى من يكتشفها ويؤمن بها».
الفيزياء مرآة العقل المتوقد
المدرّب خضور وجه رسالة إلى طلاب سوريا قائلاً: «الفيزياء ليست مجرد مادة دراسية، بل هي طريقة في التفكير، وباب لفهم العالم بلغة القوانين والمنطق.
كل طالب لديه فضول لمعرفة كيف يعمل الكون، هو عالم صغير ينتظر من يرعاه.
والأولمبياد العلمي السوري هو المساحة التي تحتضن هؤلاء العقول وتمنحهم فرصة أن يبدعوا باسم وطنهم».
بهذه الكلمات يؤكد خضور أن العقل السوري قادر على المنافسة عالمياً متى ما توفرت له بيئة العلم والبحث والدعم المستمر. فبين جهد المدربين وإصرار الطلاب، تواصل الفيزياء السورية إشعاعها في سماء الإبداع، رافعة اسم الوطن في المحافل الدولية، ومؤكدة أن التميز والإبداع ليسا شعارين، بل مسيرة علم وعمل وإيمان لا ينقطع.