توازن الحياة بين العمل والأسرة.. رؤية إنسانية في زمن الضغوط

الثورة – مها دياب :

في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتشابك فيه المسؤوليات، يبرز سؤال جوهري يلامس جوهر الإنسان العامل، هل يمكن للفرد أن يحيا حياة متوازنة بين العمل والأسرة دون أن يفقد ذاته أو يستنزف طاقته؟ هذا السؤال لم يكن مجرد تأمل نظري،

بل شكّل محوراً بحثياً عميقاً في الورقة العلمية التي قدمها الباحث السوري الدكتور خليل الحمو الحمدان، ضمن فعاليات الملتقى الدولي لطلبة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، والتي حملت عنواناً هاماً: “توازن الحياة بين العمل والأسرة وأثره في الرضا الوظيفي لدى العاملين”.

جوهر التوازن

ينطلق بحث الدكتور خليل الحمدان من فكرة محورية مفادها أن التوازن بين العمل والأسرة ليس ترفاً، بل ضرورة للاستقرار الإنساني والمجتمعي، وعنصر أساس في جودة الحياة والإنتاجية على حد سواء. فالعامل الذي يجد انسجاماً بين جهده المهني ومسؤولياته الأسرية، لا يحقق فقط رضاً وظيفياً، بل يرسخ شعوراً بالانتماء والاستقرار النفسي، ويصبح أكثر قدرة على الإبداع والعطاء.

صورة واقعية

قال د.الحمدان إن الدراسة اعتمدت على عينة متنوعة من العاملين في قطاعات مختلفة داخل سوريا، شملت موظفين وأكاديميين وإداريين، لتجسد صورة واقعية للعامل السوري الذي يسعى إلى تحقيق الانسجام بين متطلبات عمله وأدواره الأسرية. وقد تناول محاور البحث قضايا مثل ضغوط العمل، الالتزامات الأسرية، جودة الحياة الوظيفية، ومستوى الرضا العام عن بيئة العمل، في محاولة للإجابة عن سؤال جوهري: هل يستطيع الإنسان أن يعمل بفعالية ويعيش بسلام في الوقت ذاته؟.

نتائج مقلقة

وتحدث عن نتائج الدراسة التي بينت أن مستوى التوازن بين الحياة المهنية والأسرية لدى العاملين السوريين ما زال متوسطاً، نتيجة لعدة عوامل متداخلة أبرزها ضغوط العمل اليومية، وطول ساعات الدوام، وغياب المرونة التنظيمية في بيئات العمل، إلى جانب ضعف الدعم النفسي والاجتماعي داخل المؤسسات. كما بينت أن العديد من العاملين يشعرون بصعوبة في أداء أدوارهم الأسرية بعد يوم عمل طويل، ما يؤدي إلى حالة من الإرهاق النفسي والبدني تنعكس على جودة الحياة الشخصية.

أثر التوازن

في المقابل، أشار الحمدان في دراسته إلى أن الأفراد الذين يتمتعون بقدرة أعلى على الموازنة بين العمل والحياة أظهروا مستويات أعلى من الرضا الوظيفي والانتماء المؤسسي والاستقرار النفسي، وأن هذا التوازن يسهم في تعزيز الدافعية الداخلية والإبداع، ويقلل من معدلات الغياب والتوتر الوظيفي. كما كشف أن الرضا الوظيفي لا يتحقق بمجرد تحسين الأجور أو الترقيات، بل يتطلب إحساساً حقيقياً بالعدالة والاحترام والتقدير من قبل الإدارة، إضافة إلى توفير بيئة عمل داعمة تراعي البعد الإنساني للعامل.

دور القيادة

و أكد أن القيادات الإدارية الواعية تلعب دوراً محورياً في تحقيق هذا التوازن، من خلال منح العاملين مرونة في ساعات الدوام، وإشراكهم في اتخاذ القرارات، وبناء ثقافة مؤسسية تشجع على الثقة والتواصل المفتوح. كما بين في تحليله وجود علاقة طردية قوية بين توازن الحياة والعمل وبين مؤشرات الأداء المؤسسي العام، فكلما شعر الموظف بالانسجام بين حياته المهنية والشخصية، ازدادت إنتاجيته، وارتفعت مستويات الالتزام والولاء للمؤسسة.

تحدٍّ يومي

وتكتسب نتائج بحث الحمدان أهمية خاصة في السياق السوري الراهن، حيث يعيش العامل السوري في ظل ظروف اقتصادية صعبة وضغوط معيشية متزايدة جعلت من تحقيق التوازن بين العمل والحياة تحدياً يومياً يتجاوز حدود الجهد الفردي إلى مسؤولية مؤسساتية ومجتمعية. خاصة بيئة تتسم بتقلبات الدخل وارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد الالتزامات الأسرية، يصبح الاهتمام بجودة الحياة الوظيفية والرفاه النفسي للعاملين ضرورة وطنية.

بناء الثقة

ويرى الباحث الحمدان أن تعزيز هذا التوازن في المؤسسات السورية يعد خطوة أساسية نحو إعادة بناء رأس المال البشري، واستعادة الثقة بالعمل العام، وتحقيق الاستقرار المؤسسي والاجتماعي على حد سواء. كما أظهرت نتائجه أن العامل السوري رغم تحدياته المعيشية ما يزال يتمتع بروح عالية من الصبر والانتماء، وأن توفير بيئة عمل أكثر إنسانية يمكن أن ينعكس بشكل مباشر على مستويات الإنتاجية، والإبداع، والرغبة في البقاء داخل الوطن والمساهمة في إعادة إعماره.وبرأيه هنا تبرز، الحاجة إلى توجه وطني شامل نحو دعم سياسات العمل المرنة، وتخفيف الضغط الإداري، وتبني أساليب قيادة تراعي الإنسان قبل النظام، لأن التوازن بين العمل والحياة في سوريا اليوم لم يعد مطلباً شخصيًا، بل ركيزة لإعادة النهوض المجتمعي.

توصيات عملية

وقد قدم الدكتور خليل الحمدان في ختام بحثه حزمة موسعة من التوصيات العملية التي يمكن أن تسهم في بناء بيئة عمل أكثر توازناً وإنسانية، من أبرزها:

-تبني سياسات عمل مرنة تراعي اختلاف ظروف العاملين وتتيح لهم إمكانية التوفيق بين أدوارهم المهنية والأسرية، مثل السماح بساعات عمل مرنة أو أيام عمل عن بعد لبعض الفئات.

– إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي داخل المؤسسات تعنى بصحة العاملين النفسية وتعزيز مهاراتهم في إدارة الضغوط والتواصل الأسري.

– تنظيم ورش تدريبية متخصصة في مجالات إدارة الوقت، وتحديد الأولويات، ومهارات التوازن الشخصي، وتطوير المرونة الذهنية.

– إدراج مفهوم جودة الحياة الوظيفية ضمن خطط التنمية الإدارية والاستراتيجية في المؤسسات العامة والخاصة، ليصبح أحد مؤشرات قياس الأداء والرضا المؤسسي.

– تفعيل دور القيادة التحفيزية القائمة على التفويض والثقة والاحترام المتبادل، وتبني أساليب إدارية تشجع على التوازن والاستقرار المهني.

– إشراك العاملين في صنع القرارات المتعلقة ببيئة العمل لتوليد شعور بالانتماء والمسؤولية المشتركة.

– تشجيع البحوث المستقبلية التي تربط بين التوازن الوظيفي والإبداع المؤسسي والابتكار الإداري، خصوصاً في ظل التحولات الرقمية والضغوط الاقتصادية الحديثة.

إعادة الاعتبار

يمثل بحث الحمدان دعوة صادقة لإعادة الاعتبار للإنسان في بيئة العمل، من خلال رؤية تؤمن بأن التوازن بين الحياة المهنية والأسرية، ضرورة للاستقرار النفسي والاجتماعي، ومفتاح لتعزيز الإنتاجية والانتماء المؤسسي.

خاصة أن العامل السوري، رغم التحديات، ما يزال يحمل طاقة من الصبر والانتماء، وأن توفير بيئة عمل أكثر إنسانية يمكن أن ينعكس إيجاباً على الأداء والإبداع.

وقد جاءت هذه الرؤية ضمن سياق علمي دولي، حيث قدمت الورقة في الملتقى الدولي لطلبة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، الذي استضافته جامعة سيرت في تركيا نهاية شهر تشرين الأول، بمشاركة باحثين من مختلف الدول.

آخر الأخبار
بازار خيري في خان أسعد باشا يدعم الشباب والأيتام مؤتمر المناخ.. اختبار للدول العربية في مواجهة التحديات مطالبات بتسهيل الترانزيت ووقف إتلاف الصادرات الكيميائية  سوريا والجنوب العالمي.. "صرخة" في الأمازون من أجل عدالة مناخية معرض "روح الشام" يحتفي بإبداع النساء ويدعم الأيتام من الأيادي السورية تولد الألوان تحذير من التعامل مع جهات أو سماسرة للتسجيل على موسم حج 1447هـ نقل دمشق: إجراءات لتسهيل نقل الملكية وتخفيض للرسوم "لوبان" إشارات الجمال سوريا بوابة إلى المتوسط ومركز للتنمية البحرية الصناعية والسياحة الأغذية المصنّعة.. لذّة سريعة وعبء صحي مؤجّل توازن الحياة بين العمل والأسرة.. رؤية إنسانية في زمن الضغوط تأهيل مدرسة عربين السابعة وتعبيد وتزفيت طريق السليمة - التل أهالي حي التضامن يشكون تراكم القمامة، و"النظافة" تعد بالحل ! التشاور مع الصناعيين ضمانة لاتخاذ قرارات متوازنة تعزز النمو خبراء يطالبون بإنقاذ قطاع النحل وتسويق تعاوني للعسل السوري هيئة التميز والإبداع لإعداد جيل يقود المستقبل التعرض للجوار بالإيذاء في القانون.. حفظ الحق لتماسك المجتمع مقهى النوفرة ينبض بذاكرة دمشق العمل الإنساني.. عندما يكون بأيادٍ أمينة