الثورة – ميسون حداد:
لم تعد الأطعمة المصنّعة زائراً عابراً على موائدنا، بل تحوّلت إلى ضيف دائم بنكهة مُغرية وأسعار مقبولة ومشهد إعلاني متقن، تغزو الرفوف بألوان لامعة، وتدخل البيوت تحت شعار “الراحة والسرعة”، كأنها اختصارٌ للحياة العصرية في كيس أو علبة!، لكن ما يبدو طعاماً مريحاً لا يحمل الثمن نفسه حين ينتقل إلى الأمعاء، ويؤثر على المناعة، فالدم، ثم الخلايا.
فخلف الطعم اللذيذ، تتكدّس مواد حافظة ومنكّهات ودهون وسكريات مصنّعة، تُراكم آثارها ببطء داخل الجسد، لتتحوّل مع الوقت من “وجبة عابرة” إلى عبء صحي ثقيل يمتد لسنوات.
لفتح هذا الملف بعيداً عن الانطباع العام والاتهامات العشوائية، حاورت “الثورة” طبيب الأورام ومدير مستشفى المواساة الجامعي الدكتور أمين سليمان واختصاصي التغذية عروة قرّة، لكشف ما يجري خلف واجهة هذه المنتجات من مكوّناتها الخفية، إلى تأثيرها على المناعة والخلايا، وصولاً إلى ارتباطها بالأمراض المزمنة والسرطانات.
التصنيع المقبول والخطر
يرى قرّة أن تعريف الغذاء المصنّع يبدأ من تغيّر تركيب المادة الغذائية الأصلية، فكل الأطعمة التي خضعت لتغييرات في تركيبها الطبيعي الأساسي من خلال الطهي، أو التعليب أو إضافة مواد حافظة أو منكهة أو ملونة هي أطعمة مصنّعة.
ولا يضع قرّة كل ما هو مُصنّع في خانة الضرر، فهناك ما يسميه “التصنيع المقبول” مثل اللبن والجبن والمربى، وهو أبسط أنواع التصنيع وأكثره قابلية للفائدة.
في المقابل، تمثّل الأطعمة التي تمر بمراحل تصنيع معقدة مثل المرتديلا، الشيبس، والمشروبات الغازية، شريحة المنتجات الأكثر ضرراً صحياً، ويؤكد أن درجة الخطورة تتبدل بازدياد التعقيد الصناعي، ونوع المواد المضافة، وجودتها، وطريقة الحفظ.
ويحدد قرّة أبرز المواد التي تُضاف إلى الأغذية المصنّعة بهدف تحسين الشكل والطعم وإطالة الصلاحية: “دهون مهدرجة أو مشبعة، سكريات ومحليات صناعية، كميات عالية من الملح (الصوديوم)، منكّهات وملونات صناعية، ومواد حافظة مثل النترات والنتريت، والأخطر بينها هي الدهون المهدرجة والسكريات”.
أما من منظور طب الأورام، فيقدم الدكتور سليمان الخطر من زاوية أوسع، أكثرها إثارة للقلق هو النترات والنتريت في اللحوم المعالجة، التي تتحول داخل الجسم إلى مركبات نيتروزامينية مسرطنة.
كما يشير إلى مادة الأكريلامايد الناتجة عن المعالجة الحرارية، إضافة إلى الدهون المتحولة والسكريات العالية التي تغذي الالتهاب والسمنة وتزيد بيئة الخطر.
ماذا يحدث داخل الجسم؟
لا تغيّر الإضافات الصناعية وفق قرّة محتوى الطعام فقط، بل بنية الأمعاء نفسها، فهي تقلل من تنوع البكتيريا المفيدة، فتضعف الهضم وترتخي المناعة، بينما يؤدي ارتفاع السكر والدهون المصنعة إلى زيادة الالتهابات، ورفع الكوليسترول الضار، وزيادة خطر الجلطات، لتتراكم النتيجة على شكل “سمنة، سكري، ضغط، أمراض قلب”.
من جهة أخرى، يشرح الدكتور سليمان التأثير على مستوى الخلية مباشرة: “هذه المواد قد تُحدث تلفاً في الحمض النووي أو تغيّر توازن الأكسدة والالتهاب داخل الخلايا، ما يُسهّل نشوء الطفرات ويخلق بيئة مناسبة لتطور السرطان مع مرور الوقت”.
هل العلاقة مع السرطان مؤكدة؟
يصنّف الدكتور سليمان اللحوم المصنعة من قِبل منظمة الصحة العالمية كـ”مسرطن مؤكد للإنسان”، خصوصاً لسرطان القولون، أما المشروبات الغازية فلا تُصنّف كمسرطن مباشر، لكنها تزيد الخطر عبر دورها في السمنة واضطراب الأيض، ويؤكد أن الخطر يتأثر بالعاملين معاً، الكمية، والتعرّض المزمن حتى لكميات صغيرة.
بدوره لا ينفي قرّة الرابط، لكنه يلفت إلى تباين الدراسات تبعاً لجهة التمويل، غير أنه يضيف بوضوح: “ضعف المناعة وزيادة التهابات الجهاز الهضمي وتكرارها مؤشر خطير على احتمالية الإصابة بسرطان القولون مثلاً”.
الأطفال أول الضحايا
يتفق الخبيران على اختلاف درجة الخطورة بين الفئات العمرية، يؤكد قرّة أن الأطفال هم “الأكثر حساسية بشكل مؤكد” بسبب الاستهلاك المتكرر للشيبس والمشروبات الغازية والحلويات، ما يخلق لديهم مبكراً أمراضاً مزمنة كانت تخص الكبار سابقاً: السمنة، السكري، أمراض القلب.
أما الدكتور سليمان فيضيف العامل الوراثي ونمط الحياة، مشيراً إلى أن “من لديهم استعداد وراثي أو سمنة أو يدخنون، أكثر عرضة لتأثير هذه الأطعمة”.
سرعة الانتشار
يُرجع قرّة انتشار هذه الأطعمة إلى الحياة السريعة التي تميل إلى الأسهل والأرخص، وإلى تأثير الحملات الإعلانية الضخمة التي تخاطب المتلقي نفسياً قبل أن تخاطبه غذائياً.
وحول اختيار المنتج الأقل ضرراً يضع قرّة دليلاً عملياً مبسطاً للبطاقة الغذائية، فينصح بتجنّب المنتجات التي تحتوي على رموز أو أسماء غريبة مثل E100-E900 ويضيف: “لا تثق بمنتج يحتوي أكثر من 5 أو 6 مكونات، وانتبه للأسماء المخفية للسكر، فركتوز، شراب الذرة، محليات طبيعية، اختر الدهون الطبيعية كزيت زيتون أو دوار الشمس، واستهلاك السكر أقل من 8غ/100غ والصوديوم أقل من 300ملغ/100غ”، وينهي “اختر أقصر قائمة مكونات، فهي غالباً الأكثر أماناً”.
خلاصة تحليلية
لا تقوم خطورة الأغذية المصنّعة على عنصر واحد، بل على تركيب متشابك بين المواد المضافة، وتراكم الاستهلاك، وطبيعة الجسم الذي يستقبلها.
فما يقرر المصير ليس ما نأكله في يوم واحد، بل ما نكرره خلال سنوات.
فالمشكلة – كما يوضح كلا الخبيرين ليست في قطعة شيبس أو شريحة لانشون، بل في تحوّل هذه الأطعمة إلى نمط غذائي يومي يستهلك المناعة ببطء ويدفع الجسم نحو السمنة، الالتهاب المزمن، واضطرابات الخلايا.
ولا يكمن الخيار الصحي في الامتناع المطلق، بل في الوعي: أن نعرف ما نأكل، كيف صُنع، وما الذي يخفيه خلف الطعم.. لأن أخطر الغذاء ليس ما يفسد في العلبة، بل ما يفسد في الجسد.
في النهاية، لا يبدو أن معركة الإنسان مع الأغذية المصنّعة معركة طعم أو رغبة بقدر ما هي معركة وعي.
فالمصنّع ليس خطراً لأنه موجود، بل لأنه تسلّل إلى العادة اليومية دون سؤال.
وما بين قراءة بطاقة غذائية، والعودة إلى الغذاء الأبسط، يملك المستهلك سلاحه الوحيد: أن يعرف ما يدخل جسده، قبل أن يدفع ثمنه بعد سنوات.