الثورة- تحقيق سعاد زاهر:
تدخل سوق مدحت باشا كأنك تعبر إلى وقت مضى، أزقته الضيقة الحجرية حين تمشي إلى جانبها تتشابك، تداهمك الذكريات من كل صوب، أصوات الزائرين تتمازج مع صرير النحاس تحت أيدي الحرفيين، فيما تتسلل أشعة الشمس في نهار صيفي، بين المباني القديمة لتضيء قطع “الأنتيكا”.
نبتعد في اتجاه معاكس عن رائحة القهوة والبهارات التي تعمّ الجو حين نقترب منها، وحين نبتعد نرى مزيجاً فريداً يجعل كل خطوة في السوق رحلة استكشافية، هنا، ليست القطع مجرد سلعة، بل شواهد على تاريخ دمشق.

تاريخ بين يدَي الزائر
سوق مدحت باشا، ليس مجرد مكان للتسوق، بل فضاء حيوي يحفظ هوية المدينة ويجعلها مرئية للزائر، كل زاوية، كل قطعة نحاسية أو قطعة أنتيكا تحمل بصمة الحرفي وتاريخاً ممتداً عبر أجيال.
من فناجين القهوة المزخرفة إلى الصواني النحاسية القديمة، وكل قطعة تروي قصة حياة يومية، إبداعاً بشرياً، وموروثاً ثقافياً، الزائر الذي يمشي بين هذه المحلات لا يقتني مجرد شيء مادي، بل يلمس حكاية المدينة وروحها الأصيلة.
يقف محمد باسل الشريف داخل محله الصغير في زاوية هادئة قرب خان أسعد باشا محوطاً بالفناجين، الصواني، وقطع الأنتيكا القديمة والحديثة، يقول محمد في حديثه لنا: “أتيت إلى هنا منذ 45 عاماً، وكل يوم أشعر وكأنني أعيش رحلة عبر التاريخ، الهواء هنا مليء بعبير الزمن، والسوق يردّ الروح…)، محمد يعمل في مهنة الأنتيكا والنحاسيات منذ سبع سنوات، لكنه يعرف السوق منذ طفولته، ورغم تعلقه بالمهنة والمكان، يعترف بالواقع الصعب، (الشراء المحلي ضعيف جداً، لا نبيع شيئاً إلا إذا جاء سائح من الخارج أو مغترب يبحث عن قطعة تذكره بوطنه).
القطع التي يعرضها تتراوح بين القديمة والحديثة، وأسعارها تبدأ من 10 دولارات للفناجين الصغيرة وصولاً إلى 100 دولار لبعض القطع النادرة، بالنسبة لمحمد، السوق ليس مجرد تجارة، بل هو هوية وانتماء لمكان يعيد الروح، حيث كل قطعة تروي قصة زمن لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة.
النقش اليدوي
على بعد أمتار، يقف أحمد رحمة بين أدواته وقطع الأنتيكا التي تعكس مهارته الطويلة في النقش اليدوي والآلي على النحاس، يقول أحمد: كل قطعة لها سعرها حسب الجهد المبذول.
النقش اليدوي أغلى من الآلي، ودخول الفضة يرفع قيمتها، كلما تعبنا عليها أكثر، أصبحت أكثر قيمة.
يعرض في محله فناجين صغيرة بسعر 10 دولارات، وصولاً إلى مصبّات القهوة الكبيرة التي تصل إلى 400 دولار.. يقول: البيع قليل جداً، ولولا التصدير إلى العراق والأردن ودول أخرى لما كان هناك أي حركة.
ويتابع: هنا، تتحول الأدوات إلى شواهد على الإبداع البشري والصمود أمام التحديات الاقتصادية، بينما يتحول كل فنجان نحاسي أو صينية مزخرفة إلى فلسفة صغيرة عن الزمن والعمل والوجود.
يتضح من لقاءات الحرفيين أن المغتربين والسياح الأجانب يشكلون العمود الفقري لحياة السوق، هم من يسافر بين الزمن والمعاصرة، يبحث عن قطع تحمل روح التاريخ ويذكرهم بوطنهم وذكرياتهم.
أما الزائر المحلي، فضعف القدرة الشرائية أو فقدان الاهتمام بالتراث يجعله غائباً عن السوق.

روائح لا تُنسى
السوق ليس مجرد مشهد بصري، بل تجربة حسية كاملة، يمكنك شم رائحة النحاس الممزوجة بالقهوة، سماع صرير المطرقة على المصبّة، رؤية أشعة الشمس تنعكس على القطع النحاسية، ولمس الأسطح الباردة المحفورة بنقوش دقيقة.
كل عنصر هنا يجعل الزائر يعيش تجربة شبه فلسفية، حيث تتداخل الحواس مع التاريخ لتخلق شعوراً بالدهشة والانغماس في المدينة القديمة.
رغم الجمال والثراء الثقافي، السوق يواجه صعوبات كبيرة، منها أولاً: ضعف الإقبال المحلي على الشراء. ثانياً: اعتماد شبه كامل على السياح والمغتربين. ثالثاً: ارتفاع تكلفة المواد مقابل الأسعار المعقولة.
محمد باسل يقول: رغم توقف النشاط التجاري، أنا أنتمي إلى هذا المكان، إنه يرد الروح. هذه الكلمات تلخص فلسفة السوق، الانتماء والتراث أهم من الربح اللحظي، والصمود أمام الركود هو استمرار للحياة الثقافية.
القطع التي تتحدث
كل قطعة هنا، مهما كانت صغيرة، تحمل تاريخاً وفلسفة، كل شيء يؤكد أن الحرفة ليست مجرد مهنة، بل شهادة على استمرار الحياة والذاكرة الجماعية، السوق إذن هو حافظ للتراث، ومعلم للحاضر، وجسر نحو المستقبل. يبقى سوق مدحت باشا أكثر من مجرد سوق تجاري، إنه ذاكرة حيّة لمدينة دمشق، ونافذة على عبق الماضي الذي يتخلل الحاضر، ولكن تحتاج المحلات التراثية إلى جهود لتنشيط هذا النوع من السياحة كي نتمكن من جذب الزائرين إلى تلك الأماكن المغايرة. من المهم جداً دعم الحرفيين من خلال تسهيلات مالية ومعارض محلية لعرض منتجاتهم.
توسيع التصدير والتركيز على المغتربين والأسواق العالمية لزيادة الحركة التجارية، إضافة الى تدريب الشباب لضمان استمرارية المهنة وحفظ التراث للأجيال القادمة. لابد من تسليط الضوء على قيمة كل قطعة، تعريف الزائر بتاريخها، طريقة صنعها، وأهميتها الثقافية.
أخيرا، يستمر الحرفيون في رحلتهم اليومية، مخلدين تاريخ المدينة، صامدين رغم الركود، وراسخين في وجدان دمشق كحراس للهوية والثقافة. كل قطعة هنا ليست مجرد سلعة، بل شهادة على استمرار الحياة، عبق الحرفة، وروح المكان الذي لا يموت.