الثورة – جهاد اصطيف
في خطوة أثارت موجة غضب واسعة، أعلنت شركتا الاتصالات في سوريا، “سيريتل” و ” MTN “، عن تعديل أسعار باقات الإنترنت والاتصالات، متضمنة زيادات غير مسبوقة تجاوزت 100بالمئة، ووصلت في بعض الباقات إلى ستة أضعاف السعر السابق.
قرار وصفه مستخدمون بأنه “ضربة جديدة” تضاف إلى سلسلة قرارات اقتصادية أثقلت حياة السوريين، وخاصة في مرحلة تشهد فيها البلاد تضخماً مرتفعاً وضعفاً في القدرة الشرائية، مع وصول نسبة الفقر إلى أكثر من 80 بالمئة.
ورغم الوعود الحكومية المتكررة بتحسين معيشة المواطن، إلا أن هذه القرارات تشي بأن الواقع يسير في اتجاه أكثر قسوة، وتحديداً بعد رفع أسعار الكهرباء، ومن ثم الاتصالات، وتكريس سياسة تحرير الأسعار من دون توفير ضمانات للخدمة.
قفزات غير مسبوقة
جاءت الزيادة، وفق ما أعلنته الشركتان على نحو ارتفاع سعر الباقة الأسبوعية، على سبيل المثال، من 2,000 ليرة سورية إلى 12ألفاً ، والباقة الشهرية الأغلى وصلت إلى 300ألف ليرة سورية، وتقليص عدد الباقات من 200 باقة إلى 10 باقات رئيسية فقط، ما يحدّ من خيارات المستخدمين، ويجعلهم أمام عروض مفروضة لا يمكن اختيار بدائلها.
ورغم تبرير الشركات والهيئة الناظمة للاتصالات بأن الزيادات تعود لارتفاع التكاليف التشغيلية والحاجة للقطع الأجنبي، فإن تقارير مالية تشير إلى أن أرباح ” MTN ” تضاعفت خلال 2024، ما أثار تساؤلات حول مدى واقعية هذه المبررات.

لغة رسمية بلا حلول
أصدرت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات بياناً حاولت فيه تفسير القرار، إلا أن البيان لم يُفهم منه سوى تكريس الأسعار الجديدة من دون أي وعود بتحسين الخدمة أو حماية المستهلك.
الشارع رأى في البيان انحيازاً للشركات أكثر من كونه توضيحاً للمواطن، حيث غاب عنه أي حديث عن جودة الخدمة، أو الرقابة على الشركات، أو آليات التعويض للمستخدمين، ولم يتضمن أي خطّة لتحسين السرعات أو معالجة الانقطاعات المتكررة.
ويرى مراقبون أن البيان كان أقرب لخطاب تقني موجه للداخل المؤسسي، وليس للمواطنين الذين ينتظرون لغة واضحة ومطمئنة.
تتحول إلى ترف
مع متوسط رواتب لا يتجاوز المليون ليرة سورية لدى كثير من الموظفين، يرى الاقتصادي أمير الحلبي أن سعر باقة الإنترنت الشهرية البالغ 300 ألف، جعلها تصبح رفاهية مستحيلة، وخاصة للعائلات التي تحتاج الإنترنت للتواصل مع أقارب في الخارج أو لمتابعة التعليم عن بعد.
ويضيف : من المؤكد أن رفع أسعار الإنترنت يرفع تلقائياً تكاليف التشغيل للشركات الصغيرة والمتوسطة، وأسعار الخدمات المرتبطة بالعمل عبر الشبكة، وتكلفة وسائل الإعلام المحلية، والصفحات التجارية، والتجار الإلكترونيين.
وفي الوقت الذي تدعو فيه الحكومة إلى الدفع الإلكتروني، والتحول الرقمي، والأتمتة الحكومية، يأتي رفع سعر خدمة أساسية كالإنترنت ليقوض هذه السياسات ويزيد الهوة الرقمية داخل المجتمع، وخاصة أنه لا يوجد أي مؤشر لتحسن خدمة الإنترنت، من حيث السرعات المنخفضة، و الانقطاعات المستمرة، والتغطية الضعيفة في محافظات عدة، والبطء في وقت الذروة، ما يولد شعوراً عاماً بالغبن، يدفع المواطن أكثر ليحصل على خدمة أسوأ.
المدينة الأكثر تأثراً
رغم أن القرار شامل لكلّ سوريا، إلا أن حلب تعيش وضعاً أكثر حساسية لأسباب عدة، أهمها ضعف الشبكة في معظم الأحياء، ما يجعل دفع الأسعار الجديدة عبئاً مضاعفاً مقابل اتصال غير مستقر، وتهديد الأعمال الصغيرة في حلب، حيث يعتمد جزء كبير من اقتصاد المدينة على المهن اليدوية التي تعرض خدماتها عبر الإنترنت، وورشات الصناعات الصغيرة التي تتواصل عبر ” الواتساب “، ومكاتب الشحن والتجارة الداخلية، والأعمال المنزلية، فرفع الأسعار سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف التشغيل، وقد يدفع بعضها للإغلاق.
ولا ننسى طلاب جامعة حلب والجامعات الخاصة الذين يعتمدون على الإنترنت للبحث والدراسة، فارتفاع الأسعار سيجبر الكثيرين على تقنين الاستهلاك أو الاعتماد على الشبكات العامة الرديئة.
قرار غير واقعي
يبين “أحمد. أ” موظف حكومي أن راتبه حوالي مليون ليرة سورية، فكيف يدفع 300 ألف للإنترنت؟!
ويضيف: هل المطلوب أن نقطع التواصل مع أولادنا؟ هذا قرار غير واقعي ولا إنساني.
بدورها “إسراء. ا” طالبة جامعية، تؤكد أنه إذا فصل الإنترنت عنها، فستضطر للذهاب للمقاهي يومياً، وهذا مكلف أكثر.
تقول : نحن بحاجة للإنترنت اليوم أكثر من أي شيء آخر.”محمد .ج” صاحب ورشة نجارة في حي صلاح الدين يشير إلى أن 90بالمئة من زبائنه يتواصلون معه عبر”الواتساب”، وإذا ارتفعت التكاليف، سيرفع الأسعار، وهذا سيرفع عبء المعيشة على الكل.ويرى أحد أصحاب المحال التجارية في حي العزيزية أن الإنترنت أصلاً بطيء، وفي الوقت نفسه أصبح يضاهي الذهب، لكن للأسف لا بديل، يعني أننا مضطرون للدفع.
رأي محايد
يشير الاقتصادي فادي حمود إلى أن القرار غير مدروس اجتماعياً، لأنه يرفع أسعار خدمة شبه أساسية في بلد يعاني من ضعف دخل شديد، وغير منسجم مع سياسات التحول الرقمي التي تتطلب تخفيض تكلفة الوصول للإنترنت، ويؤدي إلى ركود اقتصادي، إذ إن الإنترنت أصبح جزءاً من البنية التشغيلية لكلّ الأعمال، وكذلك يكشف ضعف المنافسة، ففي ظلّ شركتين فقط، يصبح المواطن بلا خيارات، وسيؤثر على الحوالات والتواصل مع الخارج، وهي مصدر عيش لآلاف العائلات.
ويصف الخبير القرار بأنه “رفع للأسعار من دون استراتيجية واضحة “، إذ لم يعلن عن خطّة لتحسين الجودة، أو استثمارات جديدة في البنى التحتية، أوجدول زمني لتحسين السرعات.
قرار رفع أسعار الإنترنت في سوريا لم يكن مجرد تعديل بسيط في التسعيرة، بل تحول إلى قضية رأي عام، تلامس حياة كلّ أسرة وفرد، فالقرار يفاقم الضغط الاقتصادي، ويضرب الدخول الضعيفة، ويقوّض التحول الرقمي، ويعمق العزلة المعلوماتية، والأهم يثير استياء شعبياً نتيجة غياب المعالجة الحكومية الشفافة.
وفي حلب تحديداً، يبدو أن الآثار أشد وطأة في ظلّ سوء الخدمات وارتفاع كلفة المعيشة.
وفي ظلّ بيان لم يقدّم حلولاً، تتنامى دعوات المقاطعة وإدخال شركات جديدة لكسر الاحتكار وتوفير خدمة تناسب دخل المواطن، ليبقى السؤال الأبرز: إلى متى سيظل المواطن يتحمل فاتورة الإصلاح الاقتصادي وحده؟.