الثورة – ثورة زينية:
شهدت أسواق دمشق القديمة خلال الأيام الماضية حملة موسعة لإزالة الإشغالات التي انتشرت أمام المحال وفي ممرات الأسواق التاريخية، ولا سيما في الحريقة ومدحت باشا والبزورية وساحة الجامع الأموي.
الحملة نفذتها مديرية دمشق القديمة بمؤازرة عناصر شرطة المحافظة بهدف إعادة تنظيم الممرات التجارية للأسواق التي تراجع انضباطها خلال السنوات الأخيرة مع ازدياد التجاوزات وتوسع البسطات والواجهات الخارجية للمحال.
أن الخطوة جاءت وفق بيان لمحافظة دمشق في إطار الحفاظ على المظهر الحضري والهوية العمرانية للمدينة المدرجة على قائمة التراث العالمي إلا أن وقعها كان أبعد من مجرد تنظيم ميداني.
تنظيم ضروري أم مفاجأة غير محسوبة؟
فقد أثارت موجة من الجدل داخل الوسط التجاري خصوصاً في سوقي الحميدية والبزورية، حيث عبّر العديد من التجار عن امتعاضهم من الآلية التي جرت بها الحملة، متهمين الجهات المنفذة باعتماد أسلوب غير تشاركي وربما انتقائي في التطبيق، وبينما نفت المحافظة هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً، وجد الجدل طريقه سريعاً إلى الشارع التجاري الذي يعيش أصلاً تحت ضغط اقتصادي معقد.
مصدر في مديرية دمشق القديمة بين لـ”الثورة” أن قرار إزالة الإشغالات ليس وليد اللحظة، بل جزء من خطة سابقة لضبط الأسواق وأن تأخر تنفيذه كان سبباً في تفاقم الفوضى وتعدي المحال على الأرصفة والممرات العامة، غير أن التنفيذ المتزامن للحملة في عدة أسواق دفعة واحدة جعلها تبدو بنظر الكثير من التجار كخطوة مفاجئة تفتقر إلى تمهيد أو تشاور مسبق.
وأضاف : هذا الانطباع تحديداً كان محور استياء عدد من تجار البزورية والحميدية الذين قالوا :إن غياب التنسيق جعلهم أمام واقع جديد يحملهم خسارات مباشرة خصوصاً أولئك الذين كانت بضائعهم تعتمد على الواجهات المكشوفة أو الامتدادات الخارجية.

المحافظة: منع الفوضى واجب وليس استهدافاً
الإجراءات كانت ضرورية لوقف التعديات التي باتت تعيق الحركة وتشوه المشهد العمراني للأسواق يضيف المصدر، مؤكداً أن تطبيق القانون يتم وفق خطة تدريجية ولن يقتصر على منطقة دون أخرى، مشيراً إلى تلقي شكاوى متكررة من زوار وسكان الحارات المحاذية للأسواق حول الازدحام المفرط وصعوبة المرور الأمر الذي جعل الإزالة ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل.
ويرى أن الضبوط التي نظمت بحق المخالفين جاءت وفق القوانين والأنظمة المعمول بها، معتبراً أن الهدف ليس فرض عقوبة، بل إعادة ضبط النشاط التجاري بما ينسجم مع معايير الحفاظ على دمشق القديمة كمنطقة تراثية ذات حساسية عالية، منوهاً بأن الانتقاد الذي طُرح حول انتقائية التنفيذ غير دقيق وأن الحملة ستستمر لتشمل مناطق أخرى تباعاً.
بين منطق السوق ومنطق التنظيم.. هوة تتسع!
ابراهيم دركل صاحب محل في سوق مدحت باشا يرى أن حالة الازدحام الشديد التي يشهدها السوق وخاصة في المواسم، لم تترك لهم خياراً سوى توسيع مساحات العرض خارج حدود المحال، مؤكدين أن معظم تلك الإشغالات ليست عملاً مقصوداً للمخالفة بقدر ما هي استجابة طبيعية لطبيعة السوق وحجم الطلب، ومن سوق الحميدية عبر سالم الغبرة صاحب محل للعطورات عن الخشية من أن تؤثر إزالة الامتدادات على قدرتهم على المنافسة في سوق تعاني من تراجع القوة الشرائية وتقلبات كبيرة في التكاليف التشغيلية حسب تعبيره.
الخبير في شؤون التخطيط الحضري وتنظيم المدن المهندس محمد السواح يرى أن الجدل الحالي يعكس فجوة متكررة بين التجار والجهات المحلية في قضايا التنظيم التجاري، حيث تبرز دائماً معادلة متداخلة: الأسواق تحتاج إلى النظام لحماية صورة دمشق القديمة وهويتها، لكن التجار بالمقابل يحتاجون إلى هامش حركة يسمح لهم بمواجهة الظروف الاقتصادية الضاغطة، مضيفا : وفي ظل هذه العلاقة المعقدة لم تكن معالجة الإشغالات يوماً مسألة ميدانية فقط، بل هي نقاش مستمر حول حدود المرونة وحدود القانون بين مصالح اقتصادية ملحة ومتطلبات عمرانية لا تحتمل التلاعب.
ولا يخفى أن حملات الإزالة المتتالية في السنوات الماضية حسب الخبير السواح غالباً ما كانت تصطدم بمشكلات مشابهة: تنفيذ سريع من جهة، واعتراضات واسعة من جهة أخرى ما يفتح الباب دائماً أمام تساؤلات حول كيفية إدارة التغيير وليس فقط قرار التغيير نفسه، فالتجار يشعرون بأنهم الطرف الأكثر تأثراً، بينما ترى المحافظة أن بعض التجار اعتادوا تجاوز النظم ما جعل إعادة الانضباط مهمة شاقة.
الحاجة إلى مقاربة تشاركية
واعتبر السواح أن ما تواجهه دمشق القديمة اليوم يتجاوز خلافاً عابراً حول بسطات أو بضائع ممتدة إلى الرصيف، إنه اختبار حقيقي لطريقة إدارة واحدة من أكثر المناطق حساسية اقتصادياً وثقافياً في البلاد، فإذا كانت المحافظة ترى أن حماية هوية دمشق مسؤولية لا يمكن التهاون بها، فإن التجار بدورهم يرون أن استمراريتهم الاقتصادية لا تقل أهمية عن جمالية المشهد العمراني، لذلك تبدو الحاجة ماسة إلى اعتماد مقاربة تشاركية تقوم على الحوار المسبق، وتقديم البدائل قبل إزالة الإشغالات وطرح حلول تنظيمية حديثة تستوعب النشاط التجاري من دون الإضرار بالمشهد التراثي، محذرا من أن السوق القديمة ليست مجرد محال وبضائع، بل تاريخ نابض يعيش بين ناسه يحتاج إلى التوازن بين الحفاظ والتنمية، لا إلى معادلة الربح والخسارة بمفهومها المجرد.
ومع استمرار الجدل يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن المحافظة من بناء جسور ثقة مع التجار عبر إشراكهم في الخطوات المقبلة؟أم أن الإجراءات التنظيمية ستستمر بصورتها الحالية، لتبقى الأسواق بين شد القانون وجذب الحاجة الاقتصادية؟.