الثورة – هنادة سمير :
تصاعدت ظاهرة جديدة خلال السنوات الأخيرة قلبت صناعة السياحة رأياً على عقب:
“سياحة المؤثرين”، فلم يعد قرار السفر حكراً على الإعلانات التقليدية أو الحملات الترويجية الحكومية، بل بات يتشكل على يد صانعي المحتوى الذين يحملون هواتفهم كعدسة للعالم، وقصصهم كجواز سفر يحرّض ملايين المتابعين على خوض التجربة ذاتها،

وبات المؤثر اليوم قوة تسويقية متحركة، قادرة على تغيير الصورة النمطية لمكان ما، أو إحياء وجهة سياحية منسية، أو حتى دفع بلدٍ بأكمله إلى واجهة الاهتمام العالم وليس مجرد شخص ينشر صوراً جذابة.
كيف يغيّر المؤثرون قواعد اللعبة؟
تعتمد سياحة المؤثرين على توظيف الرصيد الرقمي الذي يمتلكه صانعو المحتوى من حيث: عدد المتابعين، مستوى التفاعل، مصداقية الخطاب، وطبيعة المجتمع المتلقي لتعزيز صورة الوجهات السياحية، أما في السابق، فكانت حملات الترويج للسياحة تعتمد على إعلانات مكلفة أو معارض متخصصة أو حملات علاقات عامة طويلة الأمد، واليوم، يمكن لرحلة مؤثر واحد إلى مدينة ساحلية أو موقع أثري مغمور أن تحقق انتشاراً عالمياً خلال ساعات، وبتكلفة أقل من جزء بسيط مما تتطلبه الإعلانات التقليدية.
وتوضح دراسات التسويق السياحي كذلك أن الجمهور بات أكثر ميلًا لتصديق تجارب السفر الواقعية التي يقدمها المؤثرون مقارنة بالمواد الإعلانية الجاهزة، لأن المحتوى يبدو أكثر عفوية وارتباطاً بالحياة اليومية، كما أن تكرار الترشيحات من مؤثرين مختلفين لوجهة معينة يخلق ما يسمى عنقود الثقة، الذي يدفع ملايين المتابعين للاعتقاد بأن التجربة تستحق بالفعل.
اقتصاد جديد… وأثر مباشر في حركة السفر
تصف جهات سياحية عالمية هذا النوع من المحتوى بأنه “ذهب رقمي”، ليس فقط لأنه يعزز الوعي بالوجهة، وإنما لأنه يساهم مباشرة في زيادة الحجوزات وخلق فرص عمل جديدة في القطاعات المرتبطة بالسياحة كالفنادق، النقل، المطاعم، والأسواق المحلية.
وقد دفعت هذه النتائج كثيراً من الحكومات وشركات السياحة حول العالم إلى اعتماد برامج شراكات رسمية مع المؤثرين، وإطلاق حملات تعتمد على سفراء رقميين بديلًا عن الحملات التقليدية.
وتشير تحليلات اقتصادية متكررة إلى أن بعض الوجهات لاسيما في آسيا وأميركا الجنوبية شهدت قفزات تصل إلى عشرات النقاط المئوية في نسب الزوار بعد انتشار مقاطع معينة لمؤثرين عالميين، ما يؤكد أن الأمر لم يعد مجرّد صور جميلة؛ إنما هو سوق قائم بذاته، له ميزانياته، وآلياته، وقياساته الخاصة.
لماذا تتجه الأنظار إلى سوريا؟
بعد سنوات طويلة من الحرب وما رافقها من تراجع في الحركة السياحية، بدأت سوريا تفتح باباً جديداً نحو التعافي من خلال القطاع الذي يملكه العالم الرقمي “سياحة المؤثرين” ، ومع الاستقرار النسبي وعودة الحركة المدنية إلى الإيقاع الطبيعي في كثير من المدن، ظهرت مبادرات شبابية وسياحية على حد سواء لتشجيع صُنّاع المحتوى على زيارة البلاد.
يبين الباحث في قسم التاريخ في جامعة دمشق الدكتور عماد شقير في حديثه لـ”الثورة” أن ميزة سوريا اليوم أنها تمتلك ما يبحث عنه المؤثرون فعلاً من مشاهد بصرية غير مستنزفة، تنوع ثقافي كبير، مدن تاريخية عمرها آلاف السنين، إضافة إلى قصص إنسانية واجتماعية ملهمة تُشكّل مادة جاهزة لصناعة محتوى جذاب.
ولأن الجمهور العالمي متعطش لرؤية الصورة من الداخل بعيداً عن العناوين السياسية، أصبح المحتوى المصوَّر من قبل المؤثرين يستقطب مشاهدات عالية.
وأضاف: في دمشق القديمة على سبيل المثال بأسواقها، وخاناتها، ومقاهيها التراثية يجد المؤثرون مادة سينمائية متكاملة، وفي الساحل السوري، تقدم المناطق الطبيعية إطلالات خلابة تجعل المحتوى ينتشر بشكل كبير، بينما في المدن الداخلية مثل حمص أو حماه أو درعا، تنطلق قصص إنسانية حول التعافي وإعادة الإعمار تجذب المتابعين الباحثين عن رحلات ذات معنى.
تغيير الصورة.. لا مجرد ترويج
الخبيرة في التسويق السياحي نيفين كرمة بينت أن أبرز ما يميز سياحة المؤثرين في سوريا أنها لا تروّج لوجهات فحسب، بل تسهم في إعادة تشكيل التصوّر الذهني عن البلاد، فالصورة العالمية التي تشكّلت خلال سنوات الحرب كانت مركّزة على الدمار والمعاناة، لكن المحتوى الذي ينشره المؤثرون يكشف للمشاهدين أن ثمة حياة كاملة تستمر، فهناك أسواق مفتوحة وحركة ثقافية و مطاعم ومقاهٍ تعج بالرواد، إضافة إلى عودة تدريجية للفنون.
وتوضح الخبيرة أن كثيراً من المؤثرين الذين زاروا سوريا في الأشهر الأخيرة ركّزوا على دهشتهم من الواقع الذي وجدوه، وهو ما جعل الجمهور العالمي يتفاعل مع المحتوى بعاطفة مزدوجة: الفضول والرغبة في الاكتشاف.وترى عبد الحق أن مستقبل الوجهات الناشئة مرتبط بشكل وثيق بالمؤثرين، لأنهم يملكون القدرة على الوصول إلى فئات عمرية شابة من الصعب استهدافها عبر الطرق التقليدية، موضحة: سياحة المؤثرين لم تعد مجرد توجه عصري، بل أصبحت أداة استراتيجية في بناء الصورة الذهنية للدول، خصوصا تلك التي تسعى إلى استعادة مكانتها في خارطة السياحة العالمية.

وتؤكد أن الأثر التراكمي لزيارات المؤثرين يتجاوز التأثير اللحظي، لأنه يخلق محتوى أرشيفياً طويل الأمد يظهر في محركات البحث، ويتحوّل إلى مصدر معلومات غير رسمي للمسافرين المستقبليين.
وتضيف: تملك سوريا اليوم فرصة مهمة في هذا المجال، فهي وجهة لم تُستنزف إعلامياً بعد، وهي غنية بالتنوع البصري والثقافي، ما يمنح المؤثرين مساحة واسعة لصناعة محتوى أصيل وغير مكرر، وهو ما ينعكس مباشرة على معدلات الاهتمام الدولي، مشددة على ضرورة أن تبني المؤسسات السياحية في سوريا شراكات مهنية واضحة مع المؤثرين، من خلال دعوات رسمية، وتصميم برامج مدروسة، وتوفير مرافق داعمة للتصوير والإنتاج، إلى جانب تدريب كوادر محلية على فهم آليات عمل المحتوى الرقمي.
مكاسب تتجاوز الاقتصاد
يتفق المختصون على أن تعزيز سياحة المؤثرين في سوريا يحمل مكاسب تتجاوز الجانب الاقتصادي المباشر، فانتشار محتوى إيجابي عن البلاد يقدم الواقع دون مبالغة، يسهم في: استعادة ثقة الجاليات السورية في الخارج، ويشجع السياحة الداخلية، ويرفع الوعي بقيمة التراث، وكذلك تعريف العالم بتاريخ البلاد بعيداً عن القوالب الإعلامية السابقة، وجذب مستثمرين محتملين في قطاعات الضيافة والفنادق والخدمات، كما يسهم في خلق سياحة تقوم على التعاطف والفضول، وهو النوع الذي يجذب فئة من السياح الباحثين عن تجربة مختلفة، وتفاعل حقيقي مع السكان المحليين.
نافذة جديدة على سوريا
تؤكد خبيرة التسويق السياحي أن سياحة المؤثرين أصبحت جزءاً من التحول العالمي في صناعة السفر، ومع بدء سوريا مرحلة جديدة من إعادة الانفتاح، فإن هذه الظاهرة تعد أحد المفاتيح الأكثر فاعلية لتقديم البلاد بصورة حديثة وحقيقية وعادلة، لأن المؤثرين ينقلون قصصاً، ومشاعر، وصوراً تظلّ محفورة في ذاكرة جمهور واسع حول العالم، وتشدد على أن إدارة هذا النوع من السياحة بالشكل الصحيح يمكن أن يعيد سوريا إلى واجهة الخرائط السياحية العالمية، بفعل عدسات صغيرة، وأصوات مؤثرة، ومحتوى صادق، يستطيع أن يروي للعالم قصة مختلفة، قصة بلد يستعيد حياته.