الثورة – وفاء فرج:
بعد نحو عام من تطبيقه في سوريا، تفتح صحيفة “الثورة” ملف اقتصاد السوق الحر، مستطلعة آراء اقتصاديين وصناعيين وخبراء حول هذه التجربة الوليدة، التي يرى بعضهم أنها كانت إيجابية في العديد من النواحي، بينما يشدد آخرون على ضرورة فرض شروط صارمة لحماية المنتج المحلي.

ويقول رئيس غرفة تجارة ريف دمشق، الدكتور عبد الرحيم زيادة، إن تطبيق اقتصاد السوق الحر بعد التحرير يمثل أحد أهم مكتسبات المرحلة الجديدة، مشدداً على أن هذا التحول يمثل قطيعة مع السياسات الاقتصادية الفاشلة التي سادت في عهد النظام البائد.
ووصف زيادة السياسة الاقتصادية السابقة بأنها “فاشلة” وقائمة على “السوق المنغلق”، التي كانت تهدف إلى توفير حماية اقتصادية لفئة قليلة من رجال الأعمال والتجار لكسب ولائهم المطلق للسلطة.
وأوضح زيادة أن هذه السياسة مكنت فئة قليلة من الشعب بالتشارك مع الفئة الحاكمة من السيطرة على مقدرات البلد، ما أدى إلى إفقار غالبية الشعب السوري وإشغاله بتأمين الضروريات الأساسية.
وأشار إلى أن نتائج تلك السياسة تمثلت في “غلاء فاحش” وتوفير سلع “رديئة الصنع” تحت ذريعة حماية الصناعة الوطنية، فضلاً عن تنشيط التهريب لتحقيق مزيد من الأرباح للمتنفذين في عهد النظام البائد.
نقلة نوعية
ورأى زيادة أن سياسة السوق الحر المعتمدة منذ التحرير، أدت إلى “توفر جميع ما يحتاجه المواطن بأسعار جيدة مقبولة”، وبات الحصول عليها سهلاً وحراً ودون “عناء أو ذل أو ابتزاز”.
واعتبر أن هذه السياسة الاقتصادية الجديدة “ناجحة بجميع المقاييس”، فقد دفعت باتجاه منافسة قوية بين الصناعيين والتجار لتقديم سلع بجودة عالية تنافس مثيلاتها المستوردة.
وأضاف أن هذا التوجه شجع على دخول استثمارات خارجية في جميع القطاعات، ما يؤدي إلى تنمية مستدامة تمكن سوريا من أن تصبح في مصاف الدول المتقدمة في زمن قياسي.
كما أشار إلى أن السوق الحر يتيح الفرصة لإزالة العقوبات الدولية واندماج سوريا في المجتمع الدولي.
لكن زيادة لفت إلى أن التحول الاقتصادي الكبير في سوريا يحتاج إلى وقت وصبر حتى تظهر نتائجه الإيجابية الكاملة وتختفي المظاهر السلبية التي سادت عهد النظام البائد.
تحديات بنيوية
بالمقابل يرى صناعيون أن القطاع يواجه تحديات بنيوية عميقة في مرحلة الانفتاح الاقتصادي التي تلت عمليات التحرير، خاصة أن تطبيق مبادئ السوق الحر “ليس مكتملاً”، وأحياناً “دون منهجية شاملة” تضمن الاستفادة المثلى من هذا التوجه.

وأوضح الصناعي مازن كنينة، أن الاقتصاد الحر يمكن أن يكون أداة للنهوض لكنه يحتاج إلى بيئة اقتصادية مستقرة وصحية، مشيراً إلى أن الصناعة الوطنية تعاني منذ أكثر من 14 عاماً من توقف تحديث خطوط الإنتاج وتقادم التجهيزات، إلى جانب الارتفاع الكبير في تكاليف الطاقة، ما حد من قدرتها على المنافسة أمام المنتجات المستوردة.
حماية الإنتاج المحلي
ولفت كنينة إلى أن أبرز الإشكاليات التي تواجه الصناعة اليوم هي ضعف الحماية الفعلية للمنتج الوطني، لافتاً إلى أن الفارق بين الرسوم الجمركية على المواد الأولية وتلك المفروضة على المنتجات الجاهزة ليس كبيراً بما يكفي، ما يجعل المنتج المستورد غالباً أقل تكلفة من المنتج المحلي.
ويقترح كنينة أن تكون الخطوة الأولى إعادة النظر بالرسوم الجمركية وتعزيزها على السلع الجاهزة، ريثما يتمكن الصناعيون من تخفيض تكاليفهم أو تحديث خطوط إنتاجهم، وهو أمر يحتاج إلى وقت ودراسة معمقة لتسعير الطاقة بما يحقق التوازن بين الاحتياجات الصناعية والموارد المتاحة.
رؤية بعيدة
وأشار إلى أن إدارة الملف الاقتصادي تحتاج إلى مقاربة أكثر تخطيطاً ترتكز على رؤية بعيدة المدى، بدلاً من معالجة الثغرات بحسب المستجدات، مؤكداً أن وضوح السياسات الاقتصادية ينعكس مباشرة على قدرة القطاع الصناعي على التكيّف والاستمرار.
كما شدد على ضرورة ضبط حركة دخول البضائع إلى السوق، لا سيما المنتجات الرديئة منخفضة الجودة، عبر تفعيل المواصفات القياسية السورية ومنع دخول أي مادة دون تحليل وفحص دقيق، خصوصاً تلك المستوردة رسمياً ضمن إجازات الاستيراد.
ولفت كنينة إلى أن معظم المنشآت الصناعية المحلية لا تزال في مرحلة التعافي وتحتاج إلى فترة حماية محدودة، سنة أو سنتين، لتمكينها من إعادة بناء رأس مالها وتحديث تجهيزاتها ذات الاستهلاك العالي للطاقة.
كما دعا إلى وضع خطة خمسية اقتصادية شاملة تغطي مختلف القطاعات وترسم اتجاهاً واضحاً للمستقبل، مشيراً إلى أن غياب الرؤية الموحدة يؤدي إلى إدارة يومية للملفات بدلاً من العمل وفق سياسات طويلة الأمد.ويرى كنينة أن أي خطة اقتصادية يجب أن تكون قابلة للتطبيق وتوازن بين الاحتياجات الإنتاجية والبعد الاجتماعي، خصوصاً في ظل واقع يشير إلى أن 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، معتبراً أن تعزيز دور الإنسان وتمكينه هو الأساس لأي نهضة اقتصادية حقيقية، ومحذراً من أن غياب رؤية واضحة قد يدفع المزيد من الكفاءات العلمية والمهنية إلى الهجرة.

قيود وشروط
ويعتقد العضو السابق في غرفة تجارة دمشق، مصان نحاس، أن الانفتاح الاقتصادي التام هو الطريق الوحيد لإنهاء العزلة، لكنه يشدد على ضرورة وضع “قيود وشروط” لحماية المنتج الوطني من الإغراق، مؤكداً رفضه القاطع للفكر الاشتراكي واليساري والبعثي، ومشيراً إلى أن الاقتصاد الموجه يولد منافسة غير شريفة بينما الاقتصاد الحر يضمن المنافسة الحقيقية.ويؤكد النحاس أن الانفتاح على الاستيراد يجب أن يكون “على مصراعيه”، لكنه يطالب بآلية حماية ذكية للمنتج الوطني، تتمثل في رفع الجمارك بشكل عادل على البضائع المستوردة التي لها مثيل في الصناعة السورية (مثل الألبسة والمواد الغذائية)، مع تسهيل استيراد ما لا يُصنع محلياً مثل السيارات والكهربائيات والطاقة.
ويشير إلى أن هذه الحماية ضرورية للحفاظ على مئات آلاف الموظفين والعائلات التي تعيش على الصناعات والزراعة السورية.
نتائج الانغلاق
واستعرض النحاس تداعيات الإغلاق الاقتصادي الذي ساد في عهد النظام البائد، موضحاً أنه أدى إلى “منهجة خروج الأدمغة ورأس المال السوري”، حيث اضطر رجال أعمال وصناعيون للهجرة إلى مصر وتركيا والدول الأوروبية.
وأكد أن الانفتاح الاقتصادي هو المفتاح لـ”عودة رؤوس الأموال المهاجرة، وعودة رجال الأعمال، وعودة الأدمغة التي هاجرت”، مشدداً على أن سوريا “أولى بهم”.
وأبدى النحاس تفاؤلاً حذراً، متوقعاً أن يكون العام القادم “عام البناء والازدهار” للاقتصاد السوري، خاصة مع الدعم الأميركي والأوروبي والعربي من الدول التي وقفت إلى جانب سوريا، مثل السعودية وقطر والإمارات، مما يحفز العجلة الاقتصادية في الأيام القادمة.

غير منضبط
ويرى الخبير الاستشاري في التخطيط الاستراتيجي وإدارة الأزمات، مهند الزنبركجي، أن ما يُطبق حالياً تحت مسمى اقتصاد السوق الحر “لا يزال بعيداً عن المفهوم العالمي”، ويقترب أكثر من “اقتصاد غير منضبط”، مما يثير تساؤلات حول آليات الرقابة وحماية المستهلك والمنتج الوطني.
واعتبر أن السوق أثبتت هذا الاضطراب، إذ “رغم توقف الإتاوات وأجور الترفيق والرشاوى الكبيرة التي كانت تُفرض على التجار، ورغم تراجع أسعار المحروقات بنسبة الثلث وتراجع سعر صرف الدولار، بقيت أسعار المواد مرتفعة، بل وازداد سعر العديد منها مؤخراً”.
غياب الرقابة
ويشدد الزنبركجي على أن الاقتصاد الحر عالمياً يتطلب “وجوداً صارماً” للدولة للمتابعة اليومية لجودة المواد المستوردة وصلاحيتها وبلد المنشأ، خاصة في المواد المرتبطة مباشرة بصحة المواطن، مثل المنتجات الغذائية ومستحضرات التجميل والتنظيف.
ويشير إلى أن هذا الدور الرقابي “غير موجود في الحالة السورية”، حيث تغطي “المواد مجهولة المصدر ومنتهية الصلاحية أو رديئة الجودة عدداً كبيراً” من الأسواق الشعبية دون رقابة فعالة من الدولة.
كما يرى الزنبركجي أن النموذج الاقتصادي الحالي أضر بالعديد من الصناعات الوطنية لعدم وجود قوانين وتشريعات كافية لحمايتها من المنافسة غير المنضبطة.
ويعتقد الزنبركجي أن هذا “الاقتصاد المضطرب” الذي يفتقر إلى بوصلة واضحة يستلزم ضرورة إعادة تأهيل وتفعيل العديد من مؤسسات القطاع العام، لكن “بعقلية القطاع الخاص”، ليصبح القطاع العام “صمام الأمان” للتعويض في حال قيام أي تاجر أو مستورد أو مجموعة منهم بالاحتكار أو الغش أو فرض أسعار معينة على السوق، مما يضمن توازناً أكبر في السوق السورية.