الثورة – فردوس دياب:
يشعر بعض الناجين من الكوارث أو الحوادث بقلق وخوف واكتئاب، يتجسد كشعور بالذنب لكونهم بقوا أحياء، فيما لم ينجُ الآخرون، وهذه الحالة النفسية تسمى بـ “متلازمة الناجي”، وهو الصراع العميق مع الذنب والوجود.
استجابة نفسية

هذه المتلازمة ، تفسرها لنا الأستاذة في قسم أصول التربية في كلية التربية بجامعة دمشق، الدكتورة منى كشيك، والتي أوضحت أن هذه المتلازمة تعرف باسم “ذنب الناجي”، وهي استجابة نفسية معقدة يشعر خلالها الفرد بأنه مذنب لكونه نجى من حدث صادم أو مهدد للحياة، بينما لم ينجُ الآخرون منه، مضيفة أن ذلك ليس تشخيصاً نفسياً منفصلاً بحد ذاته، ولكنه غالباً ما يكون أحد الأعراض الرئيسة المرتبطة باضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية (PTSD).
ولفتت كشيك إلى أن الشعور بالذنب هنا ليس مجرد حزن عادي، بل هو تساؤل وجودي جارح: “لماذا أنا؟ لماذا نجوت بينما مات شخص أفضل مني؟”، وقد يشعر بالذنب لكونه لم يفعل ما يكفي لإنقاذ الآخرين أو لأنه اتخذ قراراً كاختيار طريق مختلف ساهم في نجاته.
مشاعر متضاربة

وأكدت كشيك أن المشاعر المرتبطة بهذه المتلازمة متشابكة ومعقدة، فهي بالإضافة إلى الشعور بالذنب الذي يعد العرض الأساسي، يعاني الناجي أيضاً من مجموعة من الأعراض المرهقة، كالاكتئاب والحزن الشديد، والشعور المستمر بفقدان الأمل، إضافة إلى ذلك، يعاني الناجون من القلق والعصبية والتوتر الدائم، ما يؤثر سلباً في قدرتهم على التركيز والعودة إلى حياتهم الطبيعية، كما لفتت كشيك إلى ظهور أعراض جسدية أيضاً، مثل: الصداع المزمن، اضطرابات النوم من أرق وكوابيس متكررة، ومشاكل في الجهاز الهضمي، كتعبير جسدي عن المعاناة النفسية، مبينة أن استرجاع أحداث الصدمة (Flashbacks) يظل يطارده بشكل قهري، حيث يعيش لحظات الخطر ويرى وفاة الآخرين وكأنها تحدث أمامه مرة أخرى.
عواقب وخيمة
وأكدت كشيك أن هذه الأعراض لا تبقى حبيسة العقل، بل تمتد لتؤثر على كامل حياة الناجي، وتؤدي الى صعوبات في العودة إلى حياته الطبيعية، ما ينعكس سلباً على أدائه الوظيفي وعلاقاته الاجتماعية والشخصية، وانعزاله وانفصاله عن المحيطين الذين قد لا يستطيعون فهم عمق ما مر به، كما أن الناجي غالباً ما يغوص في تساؤلات فلسفية ودينية عميقة، قد تصل إلى درجة التشكيك في معنى الحياة، أو في عدالة الله، أو في طبيعة الخير والشر في العالم.
فئات معرضة
وأشارت إلى أن متلازمة الناجي لا تميز بين أحد، فهي يمكن أن تظهر لدى أي شخص تجاوز حدثاً صادماً جماعياً، كالناجين من الحروب والكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات، والحوادث الجماعية، مثل تحطم الطائرات والقطارات والانفجارات، إضافة إلى الناجين من الأمراض الخطيرة مثل السرطان، وأيضا الذين شهدوا وفاة رفاقهم في رحلة العلاج، إلى جانب ذلك، أفراد الطواقم الطبية ورجال الإطفاء، الذين يشهدون الوفيات بشكل متكرر ولا يستطيعون إنقاذ الجميع، هم أيضاً في دائرة الخطر.
أسباب خفية
وفسرت الدكتورة كشيك الأسباب الكامنة وراء هذه المتلازمة بأنها قد تكون آلية نفسية يحاول فيها العقل استعادة الشعور بالسيطرة على الأحداث، إذ يعتقد الناجي أن السبب هو خطأ ارتكبه، فهذا يعني – في لاوعيه – أن العالم ليس عشوائياً بشكل مرعب، وأنه لو فعل شيئاً مختلفاً لكانت النتيجة أفضل، مبينة أن هذا الذنب يكون تعبيراً عن التضامن مع الضحايا، حيث يشعر الناجي أن متابعة حياته والشعور بالسعادة هو نوع من الخيانة لأولئك الذين ماتوا.
وقالت كشيك: إن الخبر الجيد له دور كبير في إمكانية علاج هذه المتلازمة والتعافي منها، إضافة إلى العلاج النفسي الذي يعد حجر الزاوية في عملية الشفاء، والعلاج السلوكي المعرفي (CBT)، حيث يساعد بشكل فعال في تعديل الأفكار والمشاعر السلبية المرتبطة بالصدمة.

وبينت بشكل خاص فعالية علاج إزالة التحسس وإعادة المعالجة بحركة العين (EMDR) في معالجة ذكريات الصدمة المؤلمة وتفريغ شحنتها الانفعالية، إضافة إلى ذلك، أكدت على الدور الحيوي لمجموعات الدعم، حيث يشارك الناجون تجاربهم مع آخرين مروا بمحن مماثلة، ما يخفف شعورهم بالوحدة والعزلة، وكذلك أهمية الدعم غير المشروط من الأهل والأصدقاء، من خلال الاستماع من دون حكم وتقديم الدعم العاطفي المستمر، وفي بعض الحالات، قد يلجأ الطبيب إلى وصف أدوية مثل مضادات الاكتئاب أو القلق للمساعدة في إدارة الأعراض الشديدة.
في نهاية حديثها ، أكدت الدكتورة الجامعية أن متلازمة الناجي هي في جوهرها رد فعل إنساني طبيعي تجاه ظروف غير طبيعية وصادمة ، فهي ليست ضعفاً أو عيباً في الشخص، بل هي علامة على التعاطف والإنسانية العميقة الكامنة فيه لذلك، فإن الاعتراف بهذه المشاعر، والتحدث عنها، وطلب المساعدة المتخصصة، ليست خطوات نحو الشفاء فحسب، بل هي شجاعة تستحق كل تقدير، إنها الرحلة من عبء النجاة إلى إعادة اكتشاف معنى الحياة، رحلة من الظلام إلى النور، حيث يستعيد الناجون حقهم ليس فقط في البقاء، بل في العيش بسلام.