بين واشنطن وموسكو وبكين.. دمشق ترسم سياسة خارجية متوازنة

الثورة – أسماء الفريح:

تنتهج الحكومة السورية، منذ خلع النظام السابق، مبدأ إقامة علاقات جيدة مع كل دول العالم؛ لأن ذلك يصبّ في مصلحتها وفي صالح بقية الدول، دون التفريط بالسيادة الوطنية والتركيز على المصالح السورية أولاً، واستعادة دور البلاد الإقليمي والدولي.

ولأن موقع سوريا الجغرافي المهم في قلب منطقة الشرق الأوسط جعلها صلة وصل بين آسيا وأوروبا، إضافة إلى غناها بالموارد، فقد أثار ذلك الأطماع فيها منذ القدم، ولذلك، تعمل الحكومة الحالية على السعي للتخلص من قيود النظام المخلوع الذي رهن البلاد بعلاقات واتفاقيات مجحفة، من خلال إعادة بناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى من غير انحياز أو تفريط بالحقوق السيادية.

من هنا، تأتي زيارة وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، إلى الصين لإجراء محادثات مع عدد من المسؤولين الصينيين، وهي الأولى له منذ سقوط النظام، وتأتي في أعقاب الزيارة التاريخية للرئيس أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وكذلك بعد زيارة الشيباني لموسكو على رأس وفد رفيع المستوى نهاية تموز/يوليو الماضي.

وكان الرئيس الشرع قد أكد في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية مؤخراً، أنه على مدى الستين عاماً الماضية، كانت سوريا معزولة عن بقية العالم، وكان هناك انقطاع في العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، مبيناً أن هذه الزيارة تُدخل البلاد مرحلة جديدة من العلاقات الدولية.

بدوره، أكد الشيباني خلال لقائه نظيره الروسي سيرغي لافروف: “إن العلاقة بين الشعوب علاقة تاريخية وإنسانية، لكن هناك بعض الحكومات تفسد هذه العلاقة، ونحن هنا اليوم لنمثل سوريا الجديدة، إذ نريد أن نفتتح علاقة صحيحة وسليمة بين البلدين قائمة على التعاون والاحترام المتبادل”.

تصحيح العلاقة السورية- الصينية

وكان الوزير الشيباني قد شدد في مقابلة مع قناة “الإخبارية السورية” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على أن “العلاقة مع روسيا والصين وأوروبا نحصل عليها من خلال مكانة سوريا، ويجب أن نسخرها لمصلحة الشعب السوري”.

وأشار إلى إعادة تصحيح العلاقة مع الصين التي كانت تقف سياسياً إلى جانب النظام المخلوع، وتستخدم “الفيتو” لصالحه، موضحاً أن الحكومة السورية تعمل على معالجة آثار السياسة السابقة للنظام المخلوع، التي اعتمدت على الدبلوماسية الابتزازية.

وأكد أن الدبلوماسية السورية تحولت اليوم إلى دبلوماسية منفتحة على الحوار والتعاون، مبيناً أن كل التحركات الدبلوماسية للحكومة هادئة ومخطط لها، ولا يوجد فيها أي تنازل عن حقوق السوريين.

وتؤكد تصريحات الشيباني ركائز الدبلوماسية الجديدة لإعادة سوريا إلى الساحة الدولية، وإعادة مسار العلاقات بين سوريا والصين إلى إطاره الصحيح؛ أي الانتقال من دعم سياسي لشخص إلى بناء شراكة استراتيجية مع سوريا الجديدة.

وكانت بكين من الدول الداعمة لنظام بشار الأسد المخلوع، كما أنها رفعت مستوى علاقاتها معه إلى “شراكة استراتيجية” عام 2023.

وتزامنًا مع الإعلان عن لقاء الوزير الشيباني بنظيره الصيني وانغ يي في العاصمة بكين اليوم، أعلنت الخارجية الصينية في بيان لها أن سوريا كانت من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين، وأن التبادلات الودية بين البلدين لها تاريخ طويل.

وأعربت عن استعدادها للمساهمة في أمن سوريا واستقرارها، مؤكدة احترامها لرغبات الشعب السوري.

الصين وإعادة إعمار سوريا

تُقدر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا، عقب الحرب التي استمرت نحو 14 عاماً، بـ 216 مليار دولار، وفقاً لتقرير جديد صادر عن البنك الدولي، ما يعكس حجم التحديات والاعتماد الكبير على الدعم الدولي، وتعوّل سوريا على دعم الدول الشقيقة والصديقة من أجل المضي قدماً في إعادة إعمار المناطق والبنى التحتية المدمرة كلياً أو جزئياً.

وقال وزير المالية، محمد يسر برنية، تعليقاً على تقرير البنك: “يقدم هذا التقرير أساساً مهماً لتقييم حجم الدمار الهائل وتكاليف إعادة الإعمار التي تنتظرنا، ومن الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بحشد الدعم، وعقد الشراكات لمساعدة سوريا على استعادة خدمات البنية التحتية الأساسية”.

كما دعا نائب ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا، روحي أفغاني، في لقاء مع وكالة “فرانس برس” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى العمل على إعادة إعمار سوريا بسرعة؛ لتحقيق الاستقرار في البلاد والمنطقة ككل.

وأعرب أفغاني عن أمله في أن يؤدي تسريع إعادة الإعمار إلى تحقيق الاستقرار في سوريا، وتشجيع الكثيرين على العودة من أوروبا، مشيراً إلى أنهم أشخاص ذوو مهارات عالية، ويمكن أن يسهموا في إعادة بناء بلادهم، ما يترك أثراً كبيراً على كل المنطقة، من الناحية الاقتصادية ومن منظور بناء السلام المجتمعي.

وكان الوزير الشيباني قد أشار في لقاء “الإخبارية السورية” إلى أن الزيارة المرتقبة إلى بكين تأتي “لبحث مجالات التعاون الاقتصادي وإسهام الصين في إعادة إعمار سوريا”، مضيفاً: إن سوريا “بحاجة إلى شراكات استراتيجية حقيقية، ولا سيما مع الصين، في مرحلة البناء وإعادة الإعمار”.

بدوره، قال بيان الخارجية الصينية اليوم: “جاهزون لبحث المشاركة في إعادة إعمار سوريا اقتصادياً”.

فيما صرح وانغ يي للصحفيين بأن بلاده مستعدة للنظر بجدية في المشاركة في إعادة الإعمار الاقتصادي لسوريا، والمساهمة في التنمية الاجتماعية وتحسين مستوى معيشة الشعب السوري.

وفي هذا السياق، كانت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية قد وقعت في أيار/مايو الماضي مذكرة تفاهم استراتيجية مع شركة “Fidi Contracting” الصينية، تقضي بمنح الشركة حق استثمار كامل المنطقة الحرة في حسياء بمحافظة حمص، بمساحة تُقدر بنحو 850 ألف متر مربع؛ بهدف إنشاء منطقة صناعية متكاملة تحتوي على مصانع متخصصة ومنشآت إنتاجية.

وأكد مدير العلاقات في الهيئة، مازن علوش، أن هذه الخطوة جزء من سياسة الهيئة في إعادة تنشيط المناطق الحرة في سوريا وتوسيع أنشطتها الصناعية والتجارية، واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، ولا سيما من الدول الصديقة، بما يعزز مكانة سوريا كمركز إقليمي للنقل والخدمات اللوجستية.

وزار وفد من رجال الأعمال الصينيين، برفقة شركة “كروب” التجارية السورية، المدينة الصناعية بحسياء في الشهر ذاته؛ لبحث فرص الاستثمار في مشروعات جديدة.

وبحث مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، برئاسة محمد أيمن المولوي، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مع وفد من رجال الأعمال السوريين المقيمين في الصين، تفعيل مجلس الأعمال السوري-الصيني، وبناء شراكات استثمارية مع نظرائهم في سوريا.

كما بحث المولوي مع عضوي مجلس إدارة مؤسسة الصداقة السورية-الصينية، جو لي جان وصن شي بين، في حزيران/يونيو الماضي، الخطط المستقبلية لآلية عمل الجانب الصيني في المنطقتين الحرتين في عدرا بريف دمشق وحسياء بحمص، بما يساعد في توجيه الاستثمارات الصينية نحو القطاعات الأكثر احتياجاً في سوريا، ما يعزز فرص النجاح.

التوازن في سياسة سوريا الخارجية

كان الرئيس الشرع قد أكد في مقابلة مع قناة “CBS NEWS” الأميركية منتصف الشهر الماضي، أن المجتمع الدولي خسر كثيراً بابتعاد سوريا عن محيطها العالمي، وخاصة أنها تحتل موقعاً استراتيجياً محورياً يربط الشرق بالغرب عبر طريق الحرير التاريخي.

وأوضح الرئيس الشرع أن سوريا خرجت بحلة سياسية جديدة بعد سنوات من العزلة، وتسعى اليوم إلى بناء تحالفات متوازنة مع الغرب والولايات المتحدة، إلى جانب دول إقليمية كالسعودية وتركيا.

وأضاف: إنها تسير حالياً في علاقات هادئة ومستقرة مع روسيا والصين، مبنية على المصالح الاستراتيجية المشتركة، وأن البلدين أرسلا رسائل إيجابية لدعم سوريا، مؤكداً أن هذه العلاقات لا تتعارض مع علاقات سوريا مع الغرب أو الولايات المتحدة.

إذاً، السعي السوري هو لإقامة علاقات متوازنة بين الشرق والغرب، بما يتوافق مع مبادئ السياسة الخارجية الجديدة، للحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها، والتعامل مع القوى الدولية وفقاً لمصالح سوريا.

وقد قال الرئيس الشرع في مستهل لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو منتصف الشهر الماضي: “نحن نحترم كل ما مضى من اتفاقيات، ونحاول أن نعيد تعريف طبيعة هذه العلاقات بشكل جديد، على أن يكون هناك استقلال للحالة السورية والسيادة الوطنية”.

وقال عبد الوهاب عاصي، الباحث الرئيسي في مركز “جسور للدراسات” ومحلل الشؤون السياسية والأمنية، لصحيفة الثورة: إن زيارة الوزير الشيباني إلى بكين تأتي بعد حدثين بارزين: أحدهما انضمام سوريا للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش”، والآخر رفع مجلس الأمن الدولي العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب.

وأضاف عاصي: إن الزيارة في هذا التوقيت تعني أن دمشق تريد إيصال رسالة مباشرة إلى بكين، تؤكد فيها أن سياسة سوريا الخارجية مستمرة على التوازن، وأن الاصطفاف مع الغرب لا يعني الإضرار بمصالح الصين وروسيا، ولا يعني عدم الرغبة أو الاستعداد للتعاون معهما في مختلف المجالات، ولا سيما الاقتصادية والأمنية والسياسية.

وتابع: “إن الصين في مجلس الأمن أبدت ملاحظات على المسودات الأربع التي عرضتها الولايات المتحدة بشأن رفع العقوبات، وكانت جميعها تتعلق بملف المقاتلين الأجانب، وتحديداً مقاتلي الأويغور”.

وأشار إلى أنه “يبدو أن سوريا تريد تطمينها بشأن هذه القضية، من ناحية كيفية حلها أو مناقشتها بالسبل الملائمة، بما لا يهدد أمنها القومي، وبالتالي الأخذ بالاعتبار تحفظات الصين التي أبدتها في مجلس الأمن”.

إن إعادة بناء سوريا لعلاقاتها السياسية والاستراتيجية مع دول العالم، على أساس احترام سيادتها ووحدة أراضيها وأمنها واستقرارها، بعيداً عن سياسة المحاور والاستقطاب، يؤسس لعلاقات متبادلة متينة ودائمة تعود بالنفع على الجميع.

آخر الأخبار
بمشاركة سوريا.. ورشة إقليمية لتعزيز تقدير المخاطر الزلزالية في الجزائر    السعودية تسلّم سوريا أوّل شحنة من المنحة النفطية تحول دبلوماسي كبير.. كيف غيّرت سوريا موقعها بعد عام من التحرير؟ سوريا تشارك في القاهرة بمناقشات عربية لتطوير آليات مكافحة الجرائم الإلكترونية جمعية أمراض الهضم: نقص التجهيزات يعوق تحسين الخدمة الطبية هيئة التخطيط وصندوق السكان.. نحو منظومة بيانات متكاملة "أتمتة" السجلات العقارية.. هل تحمي الملكيات وتمنع الاحتيال؟ متري إلى دمشق.. علاقاتٌ تعود إلى مسارها الطبيعي بعد طيّ صفحة الأسد المخلوع نساء سوريات يصفن الرعب الذي تعرضن له في سجون الأسد المخلوع "مرور حمص" يبرر منع وصول السرافيس إلى المدينة الجامعية كيف نضمن اختيار المنظومة الشمسية ونتجنّب غش الدخلاء؟ هل نجحت سوريا في اقتصاد السوق الحر؟ بعد عام على التحرير.. سوريا تفتح أبوابها للعالم في تحوّل دبلوماسي كبير " متلازمة الناجي".. جرح خفي وعاطفة إنسانية عميقة خطوة ذهبية باتجاه "عملقة" قطاع الكهرباء بين واشنطن وموسكو وبكين.. دمشق ترسم سياسة خارجية متوازنة مشاعر الأمومة الفطرية والتعلق المرضي... أين الصواب؟ شباب اليوم.. طموح يصطدم بجدار الفرص المحدودة الصين تعلن استعدادها للمساهمة في إعادة إعمار سوريا الأوجاع المؤجلة.. حين يتحوّل الصبر إلى خطر