الثورة – فؤاد الوادي:
بحث وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، أمس مع وفد عسكري روسي رفيع المستوى برئاسة نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكيروف، سبل تعزيز التعاون العسكري وآليات التنسيق بين الجانبين، في زيارة وُصفت بأنها من أكبر الوفود الروسية التي تصل إلى دمشق منذ سنوات.
تأتي زيارة الوفد العسكري الروسي إلى دمشق بعد زيارة لوفد عسكري سوري إلى موسكو أواخر الشهر الماضي، وهذا يعكس إلى حد بعيد التحول المتسارع في طبيعة العلاقات بين سوريا وروسيا وتعزيزها، والانتقال بها من خانة التبعية والشخصنة إلى خانة الشراكة والتعاون في مختلف المجالات، لا سيما التعاون العسكري الذي تعول عليه دمشق لإعادة بناء قدراتها العسكرية.
وعلى الرغم من طابعها العسكري، فإن الزيارة تحمل في جعبتها الكثير من أوجه التعاون والتقارب بين البلدين، خصوصاً سبل تعزيز التعاون والتنسيق العسكري بينهما، في ظل تعقيدات المشهد الجيوسياسي على الأرض، مع بروز الحاجة إلى شراكات وشركاء جدد يدخلون ضمن لعبة التوازنات التي بدت الدولة السورية الجديدة تتقنها بشكل يسمح لها بالمناورة والتكتيك في كثير من المساحات والهوامش التي تتيحها لعبة التوازنات والمصالح وحرية الحركة على المسرح الإقليمي والدولي.
أكد المحلل العسكري أحمد حمادة أن العلاقات الروسية-السورية تمر حالياً بمرحلة تصحيح وتقييم، في ظل رغبة روسية في إعادة العلاقات العسكرية والتعاون، وبحث موضوع القواعد العسكرية والجوانب الاقتصادية، مضيفاً أن سوريا تقيم علاقتها مع موسكو على أساس من التوازن، انطلاقاً من أن روسيا دولة كبرى وقوية ومؤثرة، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، وترغب في إبقاء وجودها في المنطقة، وخاصة في سوريا.
وأوضح حمادة أن ما نراه من زيارات متبادلة بين دمشق وموسكو يدل على أن سوريا تريد علاقات قائمة على المصالح المشتركة والندية، وليس على التبعية كما كانت عليه أيام النظام المخلوع، مبيناً أن هناك رغبة سورية في تصحيح العلاقات ورسم توازنات دقيقة في علاقة سوريا بين أوروبا وأميركا من جهة، وسوريا وروسيا من جهة أخرى.
من هنا، يمكن القول: “إن تعزيز العلاقات بين سوريا وروسيا هو مصلحة مشتركة، في ظل تشابك الكثير من القضايا والملفات التي تتطلب جهوداً ووجود أطراف وقوى فاعلة ومؤثرة للمساعدة في حلها، مثل الطرف الروسي الذي تربطه بسوريا علاقات تاريخية، بغض النظر عن العلاقات التي خرجت عن مسارها الصحيح في عهد النظام المخلوع، خصوصاً وأن سوريا ترى في روسيا شريكاً فاعلاً ومؤثراً في المساهمة في حل بعض الملفات الداخلية، كملف السويداء و”قسد”، ولهذا تسعى لتعزيز علاقاتها معها، ولكن على أسس وثوابت المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب السوري”.
إعادة الثقة عبر علاقات متوازنة
العلاقات الهادئة والمتوازنة هي ما تسعى دمشق إليه في علاقاتها مع موسكو، وربما هذا يعيدنا إلى تصريحات الرئيس الشرع لقناة “CBS” الأميركية خلال برنامج “60 دقيقة”، في الخامس عشر من الشهر الماضي، عندما قال إن سوريا تسعى إلى إقامة علاقات هادئة مع روسيا قائمة على المصالح الاستراتيجية، في ضوء العلاقات التاريخية العميقة التي تربط البلدين، والتي قد يكون التعاون العسكري مدخلاً واسعاً لتعزيزها.
ويشير المحلل العسكري، أحمد حمادة، في هذا السياق إلى أهمية التعاون العسكري بين سوريا وروسيا، لما له من أبعاد على إعادة العلاقات السياسية إلى مسارها الصحيح، ووضع التعاون العسكري في خدمة إعادة ترميم قوة الجيش السوري بأسلحة وأنظمة حديثة، تؤدي إلى استقرار سوريا وحماية أراضيها.
على هذا النحو، يتبدى التعاون العسكري بين البلدين كبداية لعلاقات وتعاون أوسع قد يمتد ليشمل مجالات اقتصادية واستثمارية ومساهمة في إعادة البناء والإعمار.
لكن، وبغض النظر عن هذا كله، فإن تعزيز التعاون والتنسيق العسكري يُعد مدخلاً لإعادة الثقة بين دمشق وموسكو، بعد سنوات من تبديدها نتيجة ممارسات النظام المخلوع الإجرامية والوحشية بحق الشعب السوري.
وبقدر ما يشكل “الشق العسكري” أساساً للعلاقات السورية-الروسية، بقدر ما تشكل المصالح الاستراتيجية المتبادلة للدولتين دافعاً وأساساً لتعزيز واستمرار العلاقات.
وكما أسلفنا، فإن هناك حاجة روسية-سورية للتقارب؛ فروسيا تحتاج إلى حليف في المنطقة يمكنها من إدارة مصالحها وتوازناتها في أعقد وأقدم مكان في العالم، وسوريا تحتاج إلى حليف وشريك قوي في مواجهة الكثير من التحديات السياسية والأمنية، وفي “لعبة التوازنات”.
شراكة استراتيجية
ضمن هذا السياق، تبدو العلاقات السورية-الروسية مفتوحة على كل أوجه التعاون، بما فيها الرياضي، وهذا دلالة على رؤية استراتيجية لكلا البلدين تحاكي تاريخية العلاقات وعمقها، والتي يجب أن تعود إلى سياقها الصحيح حتى تصل إلى مرحلة الثقة التي يمكن للبلدين من خلالها إدارة وتحقيق مصالحهما بشكل أمثل وصحيح وبراغماتي، بعيداً عن المصالح الضيقة والشخصية كتلك التي كانت سائدة أيام النظام المخلوع. وهذا كله يندرج في أبعاده ضمن السياق العام للسياسة السورية التي تهدف إلى إعادة بناء علاقاتها مع دول العالم على أسس الشراكة والمصلحة الوطنية، والانفتاح الذي يدفع بعجلة النهوض والتنمية ويشرع الأبواب واسعاً أمام دخول الاستثمارات والتنمية والحركة الاقتصادية.
لقد شهدت الأشهر الماضية التي أعقبت سقوط النظام المخلوع حركة دبلوماسية مكثفة بين سوريا وروسيا، بهدف تفكيك إرث النظام المخلوع وإعادة تعريف العلاقة بين البلدين ضمن أسس جديدة.
وكانت البداية في شباط/فبراير خلال اتصال هاتفي بين الرئيس الشرع ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، تلتها زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو في تموز/يوليو الفائت، ثم زيارة لوفد روسي رفيع إلى دمشق برئاسة نائب رئيس الوزراء، تم فيها مناقشة ملفات اقتصادية وأمنية وعسكرية شاملة.
يبرز التعاون مع روسيا كخيار استراتيجي لدمشق، لا سيما في ظل الكثير من التحديات التي تقف عائقاً في مسار التعافي والنهوض، ولعل أهمها مواجهة التهديدات الإسرائيلية، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية لم يقدموا حتى الآن مقاربة حقيقية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، بينما تمتلك روسيا مواقف واضحة وتجربة في إدارة هذا الملف، حتى أن دمشق قد طلبت في وقت سابق عودة دوريات الشرطة العسكرية الروسية إلى منطقة الحدود.
وقد أكد بوتين في اتصال مع نتنياهو على دعمه لوحدة الأراضي السورية. هذا بالإضافة إلى امتلاك موسكو خبرة عميقة في الملف السوري، ولها علاقات متشابكة مع مختلف الأطراف، من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الشمال الشرقي إلى المكونات المحلية في الساحل والجنوب، وهو ما يمنحها قدرة ومساحة كبيرة على لعب دور الوسيط في النزاعات الداخلية وتعزيز استقرار البلاد.
وكانت روسيا قد سجلت، بصفتها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، خلال جلسته التي عُقدت في 10 نيسان/أبريل الماضي، موقفاً سياسياً لافتاً بدعم الإدارة السورية الجديدة ضد أي تدخلات خارجية.
فهم عميق
وفي تصريحات سابقة، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد أكد أن دمشق مهتمة بالإبقاء على القاعدتين العسكريتين الروسيتين على أراضيها، ويقصد قاعدتي حميميم الجوية في اللاذقية وطرطوس البحرية، “بالاستناد إلى مصالح الجمهورية العربية السورية”، مؤكداً أن الظروف الجديدة تتيح لهذه القواعد أن تلعب دوراً مختلفاً وليس مجرد قواعد عسكرية.
وبحسب خبراء عسكريين، فإن هذا يعكس فهماً عميقاً من قبل دمشق لأهمية هذا الوجود العسكري الروسي، الذي يمكن أن يؤمن غطاءً استراتيجياً ضد أي عدوان خارجي، ويشكل ورقة ضغط في التفاوض الإقليمي، كما يضمن تدريب ودعم الجيش السوري الذي يعتمد في تسليحه بشكل شبه كامل على المعدات الروسية.
وفي الخامس عشر من الشهر الماضي، أكد الرئيس الشرع في حديث لقناة “CBS” الأميركية خلال برنامج “60 دقيقة”، أن العلاقات السورية-الروسية قوية ومتينة وتتعلق ببنية الدولة، مضيفاً أن سوريا تسعى إلى إقامة علاقات هادئة مع روسيا قائمة على المصالح الاستراتيجية.وقال الرئيس الشرع إن سوريا تسعى إلى إقامة جسر هادئ مع روسيا قائم على المصالح الاستراتيجية، مؤكداً أن العلاقات مع موسكو وثيقة وتتعلق ببنية الدولة.
وأشار إلى أن روسيا بعثت برسائل إيجابية تجاه دمشق، وأن العلاقات مع موسكو لا تتعارض مع الانفتاح على الغرب أو الولايات المتحدة.
وفي مقابلة سابقة مع قناة “الإخبارية السورية” منتصف الشهر الماضي، أكد وزير الخارجية أسعد الشيباني أن سوريا تتعامل مع الملف الروسي بعقلانية وروية، انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على السيادة الوطنية وعدم السماح بعودة أي شكل من أشكال التبعية أو الارتهان، مشيراً إلى أن الاتفاقيات التي أبرمها النظام المخلوع مع الجانب الروسي ما زالت قيد التقييم، ولم تُقر منها أي اتفاقيات جديدة حتى الآن.
كما لفت إلى أن المشاورات الجارية بشأن الوجود العسكري الروسي في سوريا تهدف إلى إعادة تحديد طبيعة هذا الوجود ودوره في المرحلة المقبلة، بما يضمن مصالح سوريا ويحافظ على استقلال قرارها الوطني.
كما أن زيارة الشيباني إلى موسكو في نهاية تموز/يوليو 2025، أعطت مؤشراً على الاهتمام بروسيا بوصفها شريكاً عسكرياً، وقوة ذات ثقل في ميزان القوى الذي يتصدر المشهد الإقليمي، لا سيما وسط تسارع المتغيرات التي تدفع البلدين إلى إعادة تفعيل قنوات الشراكة، ولكن وفقاً لأسس ومعطيات جديدة.
ويرجع الحضور الروسي في الساحة السورية إلى مرحلة وصول حزب “البعث” إلى السلطة عام 1963، حيث لعبت موسكو أدواراً مختلفة في سياق تشكل الدولة السورية وقتها، إذ أبرمت علاقات أمنية وعسكرية استمرت إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.
نحو تعاون مثمر
وبعد اندلاع الثورة عام 2011، لعبت روسيا دوراً كبيراً في حماية النظام المخلوع من السقوط، وشكلت له حماية داخلية وغطاءً دولياً من ارتداداتها الدولية.
وبقدر ما تسعى دمشق إلى توظيف التعاون مع روسيا في تدعيم الأمن والاستقرار الداخلي، فإنها تهدف بالدرجة الأولى إلى ألا تستغل موسكو ذلك لأهداف ومصالح خاصة.
وأواخر الشهر الفائت، أنهى وزير الدفاع السوري ووفد مرافق له زيارة رسمية إلى جمهورية روسيا الاتحادية استمرت ثلاثة أيام.
وشملت الزيارة لقاءً رسمياً مع وزير الدفاع الروسي، أندريه بيلوسوف، جرى خلاله بحث سبل دعم العلاقات الثنائية بين وزارتي الدفاع في البلدين، إلى جانب مناقشة تبادل الخبرات في مجال التدريب وعدد من المجالات الأخرى.
وقال بيلوسوف: “يسرني رؤيتكم مجدداً في موسكو. لقد التقينا مؤخراً خلال اجتماع رئيسي بين بلدينا، ووجودنا هنا مجدداً على طاولة المفاوضات يثبت أن الاتصالات بين قادتنا السياسيين ووزاراتنا العسكرية فعالة ومثمرة وتنطوي على إمكانات هائلة”.
وأوضح بيان لوزارة الدفاع الروسية أن الجانبين ناقشا سبل التنفيذ العملي لمجالات التعاون الثنائي الواعدة، في ضوء نتائج اجتماع اللجنة الروسية-السورية المشتركة للتعاون العسكري والتقني.
وفي 9 أيلول/سبتمبر الحالي، التقى وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، وفداً روسياً برئاسة نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكساندر نوفاك، في دمشق، حيث أشار الشيباني إلى أن العلاقات بين سوريا وروسيا “عميقة وتاريخية، ولكنها لم تكن متوازنة دائماً”، معتبراً أن “الدعم الروسي الصريح” لسوريا الجديدة سيكون في مصلحة سوريا والمنطقة. فيما أكد نوفاك أن تطوير العلاقات مع سوريا يتم تحت إشراف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، معتبراً سوريا دولة واعدة في الشرق الأوسط، وأن العلاقات المستقبلية بين البلدين ستكون مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون الثنائي.
وكانت العلامة الفارقة في العلاقات السورية-الروسية هي زيارة الرئيس الشرع إلى روسيا منتصف الشهر الماضي، حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحث معه العلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل تعزيز التعاون الاستراتيجي في مختلف المجالات.
وأكد الرئيس الشرع في مستهل اللقاء عمق العلاقات التاريخية التي تربط البلدين، مشيراً إلى أن سوريا تمر اليوم بمرحلة جديدة تسعى من خلالها إلى إعادة بناء علاقاتها السياسية والاستراتيجية مع الدول الإقليمية والعالمية، وعلى رأسها روسيا الاتحادية. وأضاف أن سوريا وروسيا تربطهما علاقات تاريخية طويلة، إلى جانب علاقات ثنائية ومصالح مشتركة في مجالات عدة، منها قطاع الطاقة في سوريا الذي يعتمد في جزء كبير منه على الخبرات الروسية.
وأضاف الرئيس الشرع: “نحن نحترم كل ما مضى من اتفاقيات، ونحاول أن نعيد تعريف طبيعة هذه العلاقات بشكل جديد، على أن يكون هناك استقلال للحالة السورية والسيادة الوطنية”، مؤكداً أن سلامة ووحدة أراضي سوريا واستقرارها الأمني مرتبطان بالاستقرار الإقليمي والعالمي.
بدوره، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أن العلاقات بين روسيا وسوريا تمتد لأكثر من 80 عاماً، وهي علاقات صداقة متينة تأسست في مرحلة حساسة خلال الاتحاد السوفياتي عام 1941، مؤكداً أن روسيا لم تكن يوماً تضع مصالح ضيقة أو الحالة السياسية الراهنة في حساباتها تجاه سوريا.