سوريا وقطر.. شراكة جديدة في مكافحة الفساد وبناء مؤسسات الدولة الرقابة كمدخل للتنمية.. كيف تستفيد دمشق من التجربة القطرية؟

الثورة – راغب العطيه:

تواجه سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، تحديات كبرى، من أبرزها ملف الفساد ونهب مقدرات البلاد، الذي كان يتم بشكل ممنهج في عهد النظام المخلوع، من خلال إساءة استخدام السلطة، والرشوة، وصولاً إلى إهدار المال العام، ونهب مقدرات الدولة والشعب على حد سواء، على أيدي مؤسسات وأشخاص مقربين من رأس النظام نفسه.

وذلك لأن منظومة الفساد كانت إحدى الأدوات الرئيسية التي يعتمد عليها المخلوع في تنفيذ سياساته وتحقيق أهدافه.

وقد جعل هذا النظام المخلوع من الفساد بأشكاله المختلفة أداة فعالة لربط كبار موظفي الدولة المدنيين والعسكريين به، من خلال المصالح المشتركة.

وأفرز هذا الواقع الموبوء ثقافة عامة أضعفت الثقة بالقانون والمؤسسات القضائية، خاصة في ظل انعدام الفصل بين السلطات، وهيمنة “حزب البعث” على التعيينات والمناصب العليا، وثقافة في الوسط الإداري والوظيفي تقوم على استسهال التسيب، وعدم الحفاظ على موارد الدولة، وانتشار الفساد واستساغته، بل أكثر من ذلك، أصبح يُعد “شطارة” من جانب مرتكبيه.

وتعمل الحكومة الجديدة، منذ وصولها إلى السلطة، على تفكيك هذه المنظومة وتتبع أصولها، واسترداد أموال النظام، التي بلغت مليارات الدولارات، بحسب تقارير محلية ودولية.

وهذه الأضرار شملت قطاعات استراتيجية كالطاقة، والثروة المعدنية، والخدمات.

ويتوقف نجاح أي نظام جديد للإدارة العامة، في مرحلة ما بعد الصراع، على النهج الذي تتبعه الحكومة في التعامل مع الإرث السابق، وخاصة ما يتعلق منه بالفساد والمحسوبية.

من الدعم السياسي إلى الشراكة المؤسسية

ويأتي اللقاء الذي جمع رئيس هيئة الرقابة والتفتيش المركزية، عامر العلي، مع السفير القطري بدمشق، خليفة عبد الله المحمود، أمس الأحد، في إطار تعزيز وتنسيق التعاون الثنائي بين سوريا وقطر في مجال مكافحة الفساد، وذلك ضمن تعاون مستمر بين الهيئة المركزية والشركاء العرب، في سياق إعادة إدماج سوريا في محيطها العربي.

فقد أصبحت مكافحة الفساد جزءاً من أجندة التعاون السوري-العربي، وهو ما يعكس تحولاً كبيراً في طبيعة العلاقات، من مجرد دعم سياسي إلى شراكة مؤسسية في بناء الدولة.

وعن أهمية موضوع مكافحة الفساد والتعاون السوري-القطري في هذا المجال، أكد الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية، المهندس باسل كويفي، أن مكافحة الفساد ليست مجرد عملية رقابية وقانونية، بل هي عملية أساسية لإعادة بناء الدولة السورية بعد الحرب، وتأتي أهميتها الأولية في حماية الأمن القومي، مشيراً إلى أن الفساد يُضعف مؤسسات الدولة ويجعلها عرضة للاختراق من قبل جماعات مرتبطة بجهات خارجية، ما يهدد أمن الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر.

وقال كويفي في حديث خاص لـ”الثورة”: إن “مكافحة الفساد تسهم في حل العديد من القضايا الوطنية، وفي مقدمتها إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن.

فعندما يرى المواطن أن مؤسسات الدولة تعمل بشفافية وتخضع للمساءلة، وأن الفاسدين يُحاسبون بغض النظر عن مناصبهم، تبدأ الثقة المهزوزة بالبناء.

وهذه الثقة هي حجر الزاوية لأي عقد اجتماعي جديد وضرورية لاستقرار الدولة”.

وأكد أن مكافحة الفساد في سوريا بهذه المرحلة تمثل شكلاً من أشكال تحقيق العدالة الانتقالية والمساءلة، حيث إن الفساد غالباً ما يكون أحد الأسباب الجذرية لهذه المشكلة.

الاستفادة من التجربة القطرية

كذلك، تحسين كفاءة المؤسسات وخدماتها، لأن الفساد يستنزف الموارد المالية والبشرية، وبتحجيمه، تتحسن كفاءة المؤسسات الحكومية، وتصبح أكثر قدرة على تقديم الخدمات الأساسية (كالصحة والتعليم والطاقة والبنوك، وغيرها) للمواطنين، وهو الهدف الرئيسي لإعادة الإعمار.

كما تسهم مكافحة الفساد في تعزيز التعاون الدولي وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، فالمستثمرون يتجنبون البيئات التي ينتشر فيها الفساد بسبب عدم اليقين وعدم الشفافية و”الرشوة” كتكلفة إضافية، بينما البيئة النظيفة تجذب رأس المال الضروري لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، بحسب كويفي.

كما أوضح الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية، أن تحسين التصنيفات الدولية لسوريا الجديدة، لتقدمها في مكافحة الفساد، سيفتح باب المساعدات لها، لأن الدول والمنظمات الدولية تربط تقديم المساعدات والمنح بمعايير الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، لافتاً إلى أهمية الاستفادة من خبرات الدول الشقيقة والصديقة في مكافحة الفساد، كدولة قطر التي حققت تجربة رائدة في الشفافية والرقابة في العقدين الماضيين من خلال تطويرها لمنظومات رقابية متقدمة، وحيازتها تقييمات إيجابية في مؤشرات النزاهة الدولية.

وقال كويفي: إن “قطر تُعد نموذجاً ناجحاً في بناء منظومة رقابية متكاملة، حيث تحتل مراكز متقدمة في مؤشرات الشفافية العالمية مثل مؤشر مدركات الفساد، الأمر الذي يجعل من إمكانية الاستفادة من التجربة القطرية أمراً ذا أهمية كبرى في مجال مكافحة الفساد في سوريا”.

وشدد على ضرورة تبادل الخبرات والزيارات بين البلدين، من خلال تنظيم زيارات ميدانية لوفود سورية من هيئة الرقابة والتفتيش المركزية والمؤسسات القضائية، إلى المؤسسات الرقابية القطرية (مثل هيئة الرقابة الإدارية والشفافية)، والاطلاع على آليات العمل، وأنظمة التفتيش، وطرق التحقيق، وأساليب تحليل المخاطر.

إعادة بناء المؤسسات وثقة المواطن بها

وركز كويفي على ضرورة الاستفادة من الخبرة القطرية في تصميم وتنفيذ برامج تدريبية مكثفة للكوادر السورية في مجالات الرقابة المالية والإدارية، والتفتيش على المشتريات الحكومية، ومكافحة غسل الأموال، والتركيز أيضاً على استخدام التكنولوجيا في الرقابة، وهو مجال تقدمت فيه قطر بشكل ملحوظ.

وكذلك التعاون بين البلدين في تصميم حملات توعوية للمواطنين والمؤسسات حول أهمية النزاهة ومخاطر الفساد، مستفيدة من تجربة قطر في ترسيخ هذه الثقافة مجتمعياً.

وقال الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية: إن “التعاون بين سوريا وقطر في مكافحة الفساد خطوة إيجابية”.

وأشار إلى أن اللقاء بين الجانبين السوري والقطري يمثل فرصة ذهبية لسوريا للاستفادة من خبرة قطر الرقابية المتقدمة، للنجاح في بناء مؤسسات رقابية مستقلة وفعالة تكون ركيزة أساسية ليس فقط لإعادة الإعمار، بل لإعادة بناء دولة قادرة على خدمة مواطنيها وتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة على المدى الطويل.

فعملية إعادة البناء ليست مجرد إعادة بناء للبنى التحتية المادية، بل هي إعادة بناء للمؤسسات وثقة المواطن بها، ومكافحة الفساد هي القلب من هذه العملية. كما أن للمجتمع المدني دوراً كبيراً في المشاركة الفاعلة بالرقابة ودرء الفساد، ما يتطلب تعزيز إمكانياته وتحفيزها، وتوسيع ثقافة المواطنين في كشف الفساد وعدم المشاركة في تبعاته.

تشكيل أكثر من 80 لجنة تحقيق متخصصة

وفي تقرير واحد فقط لها، نُشر على موقعها الإلكتروني بتاريخ 10 الشهر الحالي، كشفت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عن خسائر مالية تقدر بحوالي 7 ملايين دولار نتيجة عقد تم إبرامه بين وزارة الأشغال العامة والإسكان وشركة أجنبية خلال فترة النظام السابق.

وقد أظهرت نتائج التحقيقات، بحسب التقرير، وجود تجاوزات قانونية في العقد المبرم، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات تأتي ضمن جهود الهيئة لمكافحة التعديات على المال العام في العقود المبرمة خلال فترة النظام السابق، وتعزيز الشفافية والمساءلة.

وكان وزير الاقتصاد والصناعة، نضال الشعار، قد وصف ما رآه على الأرض عند وصوله إلى دمشق بـ”المشهد الصادم”.

وقال في لقاء نظمه “مجلس الأعمال السوري التركي” في مدينة إسطنبول في آب/أغسطس الماضي: إن “سوريا التي تسلمتها الحكومة الجديدة كانت مدمرة بالكامل، وإن حجم الكارثة تجاوز التقديرات”.

وهذا التصريح يختصر الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد بسبب سياسات النظام المخلوع.

وفي هذا السياق، أكد الجهاز المركزي للرقابة المالية في 25 آب/أغسطس الماضي أن تحقيقاته أظهرت فساداً ممنهجاً ساد قطاعات استراتيجية تمس حياة الناس بشكل مباشر في زمن النظام البائد، ترتبت عليها آثار مالية تجاوزت، وفق التحقيقات الأولية، مئات الملايين من الدولارات.

وأنه قام بتشكيل أكثر من 80 لجنة تحقيق متخصصة في هذه الملفات، لافتاً إلى أن التحقيقات أظهرت أن الفساد كان منظماً ومترسخاً في قطاعات لها علاقة مباشرة بمعيشة المواطنين، ما وضع على عاتقه مسؤولية كبيرة لكشف الحقائق ومحاسبة المتورطين، ووضع موانع من أجل ضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات في سوريا الجديدة، وفق ما نقلت وكالة “سانا”.

وتُعد ظاهرة الفساد ظاهرة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية، كما ارتبط وجود هذه الظاهرة بوجود الأنظمة السياسية.

وهي ظاهرة لا تقتصر على شعب دون آخر أو دولة أو ثقافة دون أخرى، إلا أنها تتفاوت من حيث الحجم والدرجة بين مجتمع وآخر.

وبالرغم من وجود الفساد في معظم المجتمعات، إلا أن البيئة التي ترافق بعض أنواع الأنظمة السياسية، كالأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية، تشجع على بروز ظاهرة الفساد وتغلغلها أكثر من أي نظام آخر، بينما تضعف هذه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على أسس من احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة وعلى الشفافية والمساءلة وسيادة القانون.

آخر الأخبار
تقرير مدلس.. سوريا تنفي اعتزامها تسليم مقاتلين "إيغور" إلى الصين محافظ السويداء يؤكد أنه لا صحة للشائعات المثيرة لقلق الأهالي  بدورته التاسعة عشرة.. سوريا تشارك في معرض دبي للطيران أحداث الساحل والسويداء أمام القضاء.. المحاكمات العلنية ترسم ملامح العدالة السورية الجديدة وزمن القمع... الاقتصاد في مواجهة "اختبار حقيقي" سوريا وقطر.. شراكة جديدة في مكافحة الفساد وبناء مؤسسات الدولة الرقابة كمدخل للتنمية.. كيف تستفيد دم... إعادة دراسة تعرفة النقل.. فرصة لتخفيف الأعباء أم مجرد وعود؟ منشآت صناعية "تحت الضغط" بعد ارتفاع التكاليف وفد روسي ضخم في دمشق.. قراءة في التحول الاستراتيجي للعلاقات السورية–الروسية وزير الخارجية الشيباني: سوريا لن تكون مصدر تهديد للصين زيارة الشرع إلى المركزي.. تطوير القطاع المصرفي ركيزة للنمو المؤتمر الدولي للعلاج الفيزيائي "نُحرّك الحياة من جديد" بحمص مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية الطب البشري بعد التحرير خطة إصلاحية في "تربية درعا" بمشاركة سوريا.. ورشة إقليمية لتعزيز تقدير المخاطر الزلزالية في الجزائر    السعودية تسلّم سوريا أوّل شحنة من المنحة النفطية تحول دبلوماسي كبير.. كيف غيّرت سوريا موقعها بعد عام من التحرير؟ سوريا تشارك في القاهرة بمناقشات عربية لتطوير آليات مكافحة الجرائم الإلكترونية جمعية أمراض الهضم: نقص التجهيزات يعوق تحسين الخدمة الطبية هيئة التخطيط وصندوق السكان.. نحو منظومة بيانات متكاملة