أحداث الساحل والسويداء أمام القضاء.. المحاكمات العلنية ترسم ملامح العدالة السورية الجديدة وزمن القمع انتهى

الثورة – نيفين أحمد:

مع انطلاق أولى الجلسات العلنية للمحاكمات المرتبطة بأحداث الساحل والسويداء اليوم الاثنين، بدت سوريا وكأنها تدخل طوراً قضائياً مختلفاً عن كل ما سبق.

لم يكن قرار فتح الجلسات أمام الإعلام المحلي والدولي إجراءً شكلياً، بل خطوة تعبر عن تحول أعمق في الطريقة التي تُدار بها العدالة بعد سنوات طويلة من السرية والإجراءات المغلقة.

وقد قدمت “اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصي الحقائق” هذه الخطوة بوصفها لحظة مفصلية تعيد تعريف دور القضاء في الحياة العامة، وتبني أرضية جديدة لثقة كانت شبه مفقودة بين الدولة والمواطن.

وخلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد أمس الأحد، أوضح القاضي حاتم النعسان أن تشكيل لجنة التحقيق في أحداث السويداء جاء بموجب القرار رقم /1287/ لعام 2025، استناداً إلى الإعلان الدستوري والقوانين السورية والمعاهدات الدولية، مشيراً إلى أن الهدف هو كشف الحقيقة ضمن إطار قانوني واضح يضمن حقوق جميع الأطراف.

في خلفية هذا المشهد، يبرز رأي الباحث الأكاديمي صدام الحمود، الذي يرى أن مجرد انعقاد جلسات علنية على هذا المستوى يعكس تحولاً في طبيعة الدولة نفسها، إذ لم يعد ممكناً التعامل مع الانتهاكات بالطريقة التقليدية التي سبقت مرحلة ما قبل سقوط النظام السابق.

في مرحلة ما بعد الأسد، ظهرت الحاجة إلى أدوات وطنية متخصصة تتعامل مع الانتهاكات بمنهجية تفكيك الروايات وتوثيق الوقائع، وهو ما دفع إلى تأسيس لجان تقصي الحقائق.

ويرى الحمود أن اللجان ليست مجرد أطر إجرائية، بل هي جزء من إعادة هندسة العلاقة بين المواطن والدولة بعد سنوات كانت فيها العدالة تُمارس خارج أعين الناس.

من دولة القمع إلى دولة العدالة

لأعوام طويلة، ارتبط القضاء السوري بصورة مثقلة بالمحاكمات المغلقة والاعتقالات التعسفية وهيمنة الأجهزة الأمنية.

هذا الإرث ترك لدى السوريين قناعة بأن العدالة لم تكن سوى امتداد لسلطة أمنية لا تقبل المراقبة أو المساءلة.

اليوم، يتبدل المشهد. فالقاضي جمعة العنزي، رئيس “اللجنة الوطنية للتحقيق”، تحدث عن “صورة جديدة لسوريا” يقوم فيها القضاء بدوره بعيداً عن أي ذراع غير دستورية.

وهنا، يضيف الأكاديمي أن هذا التحول، إن استمر، قد يشكل بداية تكوين شرعية سياسية جديدة تعتمد على القانون لا على القوة، مؤكداً أن القضاء كان يُنظر إليه لعقود كأداة لإنتاج الخوف، بينما تحاول الدولة اليوم استخدامه لإنتاج الثقة.

وبرأي الحمود، فإن اختبار جدية هذا التحول لن يكون في الخطابات، بل في كيفية سير الجلسات وجرأة الكشف عن المسؤوليات.

فالقضاء، إن لم يتحرر من ظلال الماضي، لن يكون قادراً على حمل مشروع إصلاح حقيقي.

الأحداث التي شهدها الساحل في آذار/مارس 2025، ثم أحداث السويداء في تموز/يوليو 2025، كانت وراء إعلان الخارجية السورية في أيلول/سبتمبر 2025 عن خريطة طريق من سبع نقاط، تضمنت المحاسبة والمصالحة وتعويض المتضررين، وهذا أتاح فرصة لتناول هذه الملفات بطريقة مختلفة.

وفي هذا السياق، يرى الحمود أن “إدارة إرث هذه الأحداث لا يمكن أن تُترك في الغرف المغلقة”، مؤكداً أن إخراج الملف إلى العلن هو محاولة ضرورية لاحتواء تداعيات قد تهدد الاستقرار إذا بقيت بلا معالجة.

ويضيف أن العدالة هنا تقوم بدورين معاً: محاسبة قانونية، وترميم اجتماعي يعيد تعريف فكرة الدولة لدى مواطنيها بعد أن وصلت الثقة إلى واحدة من أدنى مستوياتها.

إن تقديم هذه القضايا أمام الجمهور يمنح المتضررين شعوراً بأن أصواتهم لم تُهمل، وأن العدالة ليست انتقاماً، بل وسيلة لإعادة صياغة الذاكرة الجماعية وتثبيت رواية قابلة للتدقيق، بعيداً عن تضارب السرديات.

حياد قضائي

في المؤتمر الصحفي، أكد القاضي حاتم النعسان أن اللجنة تعمل بشكل مستقل تماماً عن أي توجيه أو تأثير سياسي. وفي بلد اعتاد عقوداً على تداخل شديد بين القضاء والسلطة التنفيذية، حملت هذه التصريحات دلالات تتجاوز ما قد يبدو مجرد “تطمين رسمي”.

واعتبر الباحث أن هذا التأكيد ليس مجرد تصريح، بل مؤشر على محاولة تغيير قواعد اللعبة.

فاستقلال لجان التحقيق يعني، كما يقول، أن القضاء يحاول لأول مرة منذ سنوات أن يضع مسافة واضحة بينه وبين النفوذ السياسي، وهو شرط أساسي لإثبات بأن ما يجري ليس محاولة لامتصاص التوتر، بل خطوة تعمل على بناء مؤسسات جديدة بعقلية مختلفة.

سوريا في سياق عالمي جديد

كان فتح الجلسات أمام الإعلام الدولي لافتاً في توقيته. فدمشق تحاول، كما يرى الحمود، إعادة التموضع في النظام الدولي عبر أدوات جديدة تُظهر التزامًا بالمعايير القانونية المتعارف عليها عالمياً.

هذه الشفافية لا تعني دخولاً مباشراً في منظومة العدالة الانتقالية، لكنها تضع سوريا في إطار قانوني أقرب إلى المتطلبات الدولية، خصوصاً في مرحلة تحاول فيها الدولة إعادة الانفتاح على العواصم الإقليمية والغربية.

وفي تقرير لـ”مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان”، تشير مديرة المركز، آمنة قلالي، إلى أن دور المجتمع المدني بات أكثر حضوراً بعد سقوط النظام المخلوع، وأن بناء سوريا ديمقراطية وسلمية يتطلب منح الفاعلين المدنيين مساحة أوسع للعمل.

وهو ما يتقاطع مع رؤية الحمود الذي يرى أن المحاكمات العلنية هي مقدمة لمرحلة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع الدولي.

اليوم، هذه المحاكمات هي لإعلان نهاية مرحلة طويلة من القمع المؤسسي، وبداية مسار جديد يتوقف نجاحه على مدى قدرة القضاء على كشف الحقيقة كاملة، وعلى استعداد الدولة لمواجهة تبعات ذلك مهما كانت حساسة.

ما يجري في قاعات المحاكم السورية ليس حدثاً تقنياً ولا مجرد إجراء قضائي.

إنه أول اختبار حقيقي لنية بناء دولة قانون بعد سنوات طويلة من الانقسام والعنف.

الحكم النهائي لن يصدر اليوم ولا غداً، لكنه يتشكل من خلال الشفافية وجرأة الكشف وقدرة القضاء على تقديم العدالة بوصفها طريقاً للشفاء لا أداة للقمع.

سوريا بهذا المسار تضع حجر الأساس لمرحلة جديدة، يبدأ فيها بناء الثقة من القاعة ذاتها التي كانت رمزاً للخوف، لتصبح فجأة جزءاً من مشهد يسعى إلى استعادة الدولة ومعها المجتمع نفسه.

آخر الأخبار
تقرير مدلس.. سوريا تنفي اعتزامها تسليم مقاتلين "إيغور" إلى الصين محافظ السويداء يؤكد أنه لا صحة للشائعات المثيرة لقلق الأهالي  بدورته التاسعة عشرة.. سوريا تشارك في معرض دبي للطيران أحداث الساحل والسويداء أمام القضاء.. المحاكمات العلنية ترسم ملامح العدالة السورية الجديدة وزمن القمع... الاقتصاد في مواجهة "اختبار حقيقي" سوريا وقطر.. شراكة جديدة في مكافحة الفساد وبناء مؤسسات الدولة الرقابة كمدخل للتنمية.. كيف تستفيد دم... إعادة دراسة تعرفة النقل.. فرصة لتخفيف الأعباء أم مجرد وعود؟ منشآت صناعية "تحت الضغط" بعد ارتفاع التكاليف وفد روسي ضخم في دمشق.. قراءة في التحول الاستراتيجي للعلاقات السورية–الروسية وزير الخارجية الشيباني: سوريا لن تكون مصدر تهديد للصين زيارة الشرع إلى المركزي.. تطوير القطاع المصرفي ركيزة للنمو المؤتمر الدولي للعلاج الفيزيائي "نُحرّك الحياة من جديد" بحمص مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية الطب البشري بعد التحرير خطة إصلاحية في "تربية درعا" بمشاركة سوريا.. ورشة إقليمية لتعزيز تقدير المخاطر الزلزالية في الجزائر    السعودية تسلّم سوريا أوّل شحنة من المنحة النفطية تحول دبلوماسي كبير.. كيف غيّرت سوريا موقعها بعد عام من التحرير؟ سوريا تشارك في القاهرة بمناقشات عربية لتطوير آليات مكافحة الجرائم الإلكترونية جمعية أمراض الهضم: نقص التجهيزات يعوق تحسين الخدمة الطبية هيئة التخطيط وصندوق السكان.. نحو منظومة بيانات متكاملة