الثورة – تحقيق هلال عون:
تُجمع التقاريرُ الصادرة عن وزارة الموارد المائية ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) على أن سوريا تواجه اليوم مرحلة شديدة التعقيد من الضغوط المائية، مع انخفاض ملحوظ في الهطل المطري وتراجع تدفقات الأنهار والمخزون الجوفي.
فقد انخفض متوسط الهطل في عدد من المحافظات بين 20 بالمئة و30 بالمئة عن المعدلات التاريخية، فيما سجّل نهر الفرات تراجعاً كبيراً في تدفقه وصل في بعض الفترات إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية مقارنة بالمتوسط التقليدي البالغ 500 متر مكعب/ثا، وفق بيانات الوزارة.

التأثير على المحاصيل الاستراتيجية
هذا التراجع الحاد في الموارد السطحية انعكس على الإنتاج الزراعي، إذ تؤكد تقارير وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي والفاو أن إنتاج القمح انخفض بنحو 40 بالمئة، نتيجة ضعف الري السطحي وارتفاع درجات الحرارة وزيادة الطلب على المياه الجوفية.
وتشير اللجنة الحكومية الدولية لتغير المناخ (IPCC) إلى أن المنطقة مرشّحة لارتفاع في الحرارة يتراوح بين 1.8 و2.5 درجة مئوية بحلول العام 2050، ما يعني تبخراً أعلى ومواسم جفاف أطول، وتراجعاً متوقعاً للموارد المتجددة يتجاوز مليار متر مكعب سنوياً.
وتشير المسوحات الفنية، وفق UNDP، إلى أن نسب الفاقد المائي في بعض المحافظات تتراوح بين 45 بالمئة و60 بالمئة، ما يجعل إصلاح الشبكات واحداً من أسرع وأرخص الحلول التي يمكن أن توفر موارد إضافية دون الحاجة لحفر آبار جديدة.
إدارة المياه.. التحدي الأكبر
في سياق متابعة ملف الأمن المائي، التقت صحيفة الثورة خبير الموارد المائية، المهندس “عدنان .م”، الذي أكد أن “سوريا لا تواجه أزمة مؤقتة، بل تحول مناخي وهيكلي يتطلب إعادة تنظيم شاملة

لقطاع المياه”، إذ تشير البيانات الوطنية إلى انخفاض واضح في مناسيب عدد من الأحواض الجوفية بمقدار يتراوح بين 3 و6 أمتار خلال العقد الماضي، وهذا مؤشر خطير، وإن الاعتماد المفرط على الضخ الجوفي جعل بعض المناطق في حالة استنزاف حقيقي”.
وحول ما إذا كان بناء سدود جديدة يشكل حلاً؟ قال: إن الأولوية ليست السدود، بل خفض الفاقد، “بناء سد جديد يحتاج سنوات طويلة، بينما إصلاح الشبكات يمكن أن يعيد ما بين 30 بالمئة و50 بالمئة من المياه خلال أشهر”.
وبخصوص التحلية ودورها المستقبلي؟ يوضح المهندس “عدنان. م” أن “تحلية مياه البحر خيار ضروري للمدن الساحلية مستقبلاً، والبدء بطاقة 50 ألف متر مكعب يومياً خطوة ممكنة وواقعية، خصوصاً عند دمجها بمشاريع الطاقة المتجددة”.
المهندس الزراعي “ميسم جليس” شدد على أن الزراعة تستهلك أكثر من 75 بالمئة من المياه في سوريا، وبالتالي فإن الإصلاح يبدأ من هنا.
ويضيف: “بعض المحاصيل تستهلك 1200-1600 متر مكعب/هكتار، وهناك محاصيل بديلة تحتاج نصف هذه الكمية، كما أن الري بالتنقيط قادر على تخفيض الاستهلاك بنسبة 40-50 بالمئة”.
إصلاح الإدارة أولاً
الخبير الإداري والاقتصادي الدكتور عبد المعين مفتاح تحدّث لـ “الثورة” عن أبعاد الأزمة الاجتماعية التي تنتج عن ندرة المياه، مبيناً أن “الخطر الأكبر هو الهجرة الداخلية وتراجع القدرة المعيشية في الريف، فالماء ليس مورداً بيئياً فقط، بل أساس الاستقرار الاجتماعي”.
ولفت د. مفتاح إلى أن الإسكوا (ESCWA) توصي بضرورة تحديث التشريعات الخاصة بالمياه، وتشديد الرقابة على الحفر العشوائي، وتحسين سياسات التسعير، بحيث تحدّ من الهدر دون أن تفرض أعباء إضافية على الفئات محدودة الدخل.
وفي هذا السياق يشدد د.مفتاح على ضرورة إنشاء مجلس وطني موحد لإدارة المياه، يربط قواعد بيانات الوزارات، ويعتمد تقييماً مائياً إلزامياً لأي مشروع زراعي أو صناعي جديد.
الحلول التقنية الممكنة
د. م سامر حسام الدين يدعو إلى تبطين قنوات الري لتقليل الفاقد بنسبة 30 بالمئة، وزيادة الاعتماد على الري الحديث، ورفع نسبة استخدام مياه الصرف المعالجة من أقل من 5 بالمئة حاليا إلى 20 بالمئة خلال السنوات المقبلة، ودعم مشاريع حصاد مياه الأمطار في الريف، وتوسعة استخدام العدادات الذكية.
د. مفتاح اعتبر الأمن المائي ملفاً وطنياً بامتياز، مبيناً أن الدراسات الأممية تؤكد أن الأمن المائي يرتبط مباشرة بالأمن الغذائي والصحي والاجتماعي.
ومن دون إدارة رشيدة للموارد، قد تواجه البلاد ضغوطاً في التوزع السكاني وازدياد الهجرة الداخلية من المناطق المتضررة بالجفاف.
وخلص إلى القول: قد لا تعود سوريا إلى “الراحة المائية” كما كانت سابقاً، لكن تحقيق أمن مائي مستدام أمر ممكن إذا استمرت الدولة في إصلاح الشبكات وتحسين الإدارة الجوفية، وتعزيز التعاون مع دول الجوار، وتوجيه الزراعة وفق الإمكانات الفعلية، ودمج المعطيات العلمية في صنع القرار.
فالماء هو ركيزة للاستقرار الوطني وأحد مفاتيح التنمية في العقود القادمة.
