الثورة – تحقيق _ سعاد زاهر :
تواجه المكاتب السياحية تحديات حقيقية، من التذاكر إلى الفنادق، من برامج العمرة إلى الرحلات الداخلية والتراثية، ومن الساحل إلى الداخل، ومن مكاتب السياحة القديمة إلى الشركات الناشئة حديثاً، تتشابه الهواجس، بنية تحتية هشة، أسعار مرتفعة، وانقطاع بين حلقات المنظومة السياحية.

في هذا التحقيق، نضع بين أيدي القراء شهادات ثلاثة من أبرز العاملين في هذا القطاع، لنرسم من خلالها ملامح المشهد السياحي في سوريا لنجيب عن تساؤل، هل تمتلك البلاد المقومات الكافية للنهوض مجدداً؟ وهل تستطيع المكاتب السياحية أن تعيد الثقة المفقودة إلى السائح العربي والأجنبي معاً؟
الإيواء المفقود.. العقبة الكبرى
منذ عام 1994 يعمل محمود أحمد الجدوع في مجال السياحة، باعتباره مستثمراً في قطاع السياحة من خلال مكتب للسياحة والسفر، وكونه نائب رئيس غرفة سياحة المنطقة الشرقية.
لقد عاش التحولات، وعاين الانقطاعات الطويلة التي أصابت هذا القطاع في الصميم، خلال زيارته الى دمشق التقيناه ليتحدث عن واقع السياحة الذي يصفه بأنه يتنفس بصعوبة.
يقول الجدوع: تخصصنا في مجال إصدار تذاكر السفر، وكانت وجهاتنا المستهدفة بالدرجة الأولى دول الخليج ثم أوروبا، طوال السنوات السابقة توقف عملنا إلى حدّ كبير، ونأمل اليوم، مع كل هذه التوجيهات والقرارات السياحية المهمة، أن تنشط السياحة وتعود من جديد، وأن تدور عجلة هذا القطاع بعد طول غياب.
لكن الجدوع، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس غرفة السياحة في المنطقة الشرقية، لا يخفي حجم التحديات التي تواجه عمل المكاتب، ويبدأ من أساس العملية السياحية، من الركيزة الأولى التي يسميها الإيواء، يشير إلى أن أي سائح يأتي إلى سوريا يحتاج أولاً إلى مكان للإقامة، وهنا نصطدم بمشكلة كبيرة، لا يوجد عدد كافٍ من الفنادق القادرة على استيعاب الوفود، إضافة إلى أن الأسعار مرتفعة جداً ولا تتناسب مع واقع السياحة لدينا، مقارنة بدول مجاورة مثل تركيا أو لبنان.
أيضاً الخدمات أقل بكثير، والأسعار أغلى، والسائح يبحث عن أمرين: الأمان، والإقامة المريحة، ورغم أن لدينا مقومات سياحية لا توجد في أي مكان في العالم، من سياحة دينية وعلاجية وتراثية إلا أن ضعف الإيواء يظلّ المشكلة الأكبر.
يعدد الجدوع ثروات البلاد الطبيعية والتاريخية: البحر، الجبال، الوديان، السهول، المدن الأثرية الممتدة على خريطة سوريا، لكنه يأسف لأن الركيزة الأولى ما تزال مفقودة.

ويتحدث عن مشكلة موازية تمسّ حركة التنقل والوصول، فيقول: نأمل مع دخول شركات طيران جديدة إلى سوريا أن تنخفض أسعار التذاكر، لأنها ما تزال مرتفعة جداً، قد لا تهمّ هذه الأسعار السائح الأجنبي الذي يملك دخلاً أعلى، لكنها ترهق السائح المحلي والمغترب السوري الذي يريد زيارة بلده.
ضعف الربط بين الجهات
وعن آليات التسويق، يوضح الجدوع أن المكاتب تعتمد حالياً على الجهود الشخصية، وشبكات العلاقات والمعارف، في ظل غياب المعارض الترويجية والدعم المؤسسي.
يقول: نحن نعتمد على معارفنا، على العلاقات القديمة والسمعة الطيبة، الزبائن الذين تعاملنا معهم سابقاً ما زالوا على تواصل معنا، وهذا ما أبقانا صامدين حتى الآن، نشارك أحياناً في فعاليات ومعارض عبر اتحاد غرف السياحة، لكنها محدودة جداً، ونأمل أن تتوسع أكثر مع الانفتاح الحالي على الأسواق العربية والعالمية.
وعن الوجهات المستهدفة، يشير الجدوع إلى أن دول الخليج كانت ولا تزال السوق الأساسي، لكنه يرى أن المستقبل قد يتجه نحو أوروبا بسبب الجاليات السورية هناك، متوقعاً أن يختلف المؤشر قريباً نحو الأسواق الأوروبية، مع برامج ترتبط بإعادة الإعمار والسياحة التراثية.
ويضيف: “السائح الأجنبي هو من يهتم بالآثار، أما العربي فيبحث غالباً عن الاستجمام، لذلك، برامج السياحة التراثية ستتأخر قليلاً، فيما نعمل حالياً على تنشيط السياحة الدينية، خصوصاً رحلات العمرة التي أصبحت متاحة براً وبأسعار في متناول اليد”.
لكنه يلفت إلى مشكلة أساسية أخرى تتعلق بغياب التنسيق بين المكاتب والشركات الفندقية والمطاعم ووسائل النقل: حتى الآن لا توجد آلية ربط بين هذه الجهات، نحتاج إلى ورش عمل، وداتا موحدة، ونظام تعاون متكامل بين جميع أطراف القطاع السياحي، بدون هذا الربط، سيبقى العمل مجزّأ وضعيفاً.
ويختم الجدوع حديثه بتفاؤل مشروط: “نأمل أن تساهم الاستثمارات الجديدة في إنشاء منشآت فندقية حديثة، ترفع من مستوى الخدمة وتعيد عجلة السياحة إلى الدوران، لدينا كل المقومات، فقط نحتاج إلى إدارة وتنظيم وتسهيلات حقيقية”.
مشكلة الفيزا والتنقل
في الطرف الآخر من المشهد، يقف بشير جباصيني، صاحب شركة خدمات سياحية، ممثلاً عن جيل أحدث في هذه المهنة، تأسست شركته قبل ست سنوات، وتركز نشاطها على قطع التذاكر والسياحة الداخلية، في وقت توقفت فيه السياحة الخارجية بسبب الظروف الأمنية والسياسية.
يقول جباصيني: “نحن متخصصون في السياحة الداخلية في مختلف مناطق سوريا، أما السياحة الخارجية فتوقفت، لكن نحاول حالياً الإقلاع مجدداً وتنشيط المجموعات القادمة إلى سوريا”.
عن أساليب التسويق، يؤكد أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت وسيلة حيوية: “كنا نعتمد على الفيسبوك والواتس فقط، وكان التسويق محدوداً بسبب الإغلاق على سوريا، الآن مع الانفتاح الكبير الذي نعيشه مع مختلف دول العالم، أعتقد أن التسويق سيتطور كثيراً عبر المنصات الرقمية”.
ويتحدث عن المشاركة في المعارض السياحية قائلاً: شاركنا في معارض داخلية داخل سوريا، لكن المشاركة في المعارض الخارجية كانت صعبة جداً بسبب القيود على السفر والفيز، الآن، ومع الانفتاح الحالي، نخطط للمشاركة في المعارض العربية والدولية القادمة.
التحدي الأكبر بالنسبة إليه ليس في الفنادق أو الأسعار، بل في الفيزا السورية التي يعتبرها مشكلة كبيرة، مؤكداً أن عدم توفر الفيزا هو أكبر مشكلة تواجه أي مواطن سوري، سواء كان تاجراً أو موظفاً أو طبيباً، لا يستطيع الذهاب إلى أي معرض أو فعالية في الخارج، حتى المعارض العربية أو الأوروبية مغلقة أمامه، هذه السنة فقط فُتحت فيزا العمرة.

ورغم ذلك، يؤكد جباصيني أن السوريين ما زالوا شعباً يحب الحياة، ويصر على السياحة الداخلية رغم الظروف الصعبة.
يتابع: الشعب السوري شعب حي، يحب أن يستمتع بالحياة مهما كانت قاسية، نقوم برحلات داخلية إلى الساحل السوري وإلى المناطق الأثرية والثقافية، مثل تدمر واللاذقية وطرطوس.
هناك رغبة كبيرة لدى الناس للتنفس والاستمتاع.
ضرورة ترخيص الرحلات
عن التعاون مع المطاعم والفنادق، يوضح: نحن جميعاً نعيش نفس الظروف الصعبة، لكن هناك تعاون جيد.
الفنادق والمطاعم تقدم عروضاً ميسّرة للمجموعات السياحية حتى يستطيع المواطن الاستمتاع بهذه الرحلات.
ويؤكد أن السياحة التراثية جزء أصيل من برامجهم: حين نذهب إلى تدمر أو طرطوس، فهذه رحلات تراثية وتاريخية بامتياز، الشعب السوري مثقف ويحب هذا النوع من السياحة.
أما عن مستقبل السياحة السورية، فيبدو جباصيني متفائلًا بحذر: مشكورة وزارة السياحة، هناك جهود واضحة، وسوريا تتميز بمناخ لا يوجد مثله في العالم، لدينا الفصول الأربعة في آن واحد، وهذه ميزة كبيرة، فقط نحتاج إلى ضبط وتنظيم العملية السياحية، خصوصاً مسألة التراخيص والرحلات العشوائية.
ويختتم حديثه بفكرة مهمة تتعلق بالفوضى التي تقوم بها بعض الرحلات دون تراخيص أو تأمين، قد يقودها أشخاص لاعلاقة لهم بالسياحة، ما يعرض المسافرين للخطر، لذلك نطالب وزارة السياحة بتشديد الرقابة الميدانية، وإلزام كل منظم بالحصول على الموافقات الرسمية لحماية الجميع.
دور غرف السياحة
آراء إياد أبو الشامات تأتي من خلفية أكاديمية وتجربة تمتد لعشرين عاماً في المجال، فهو خريج كلية السياحة، وصاحب مكتب، عاش مختلف مراحل لسياحة السورية قبل الحرب، ويراها اليوم تحاول النهوض.
يقول أبو الشامات: مكاتب السياحة والسفر لها اختصاصات عدة تبدأ من حجز تذاكر الطيران، وتأمين الفيز، وتنظيم الرحلات الداخلية والخارجية، قبل الأزمة كان 80 بالمئة من عملنا مع الأجانب، وكنا ننظم وفوداً ومعارض ونقلاً بين المحافظات، بعد الحرب، تحوّل عملنا إلى قطع تذاكر فقط، بعد توقف الفيز في معظم الدول.
ويشرح الأسباب التي أدت إلى تراجع هذا القطاع الحيوي: بعد التحرير أغلقت الدول أبوابها أمام السوريين، صار يُنظر إلى السوري بريبة، وكأن كل من يسافر ينوي اللجوء، لذلك توقفت الفيز الدراسية والسياحية في معظم الدول، وهذا أثّر على عملنا كثيراً.
أما اليوم، فيقول إن نشاطهم يتركز على تنظيم فعاليات محدودة، مثل استقبال الوفود التجارية والمعارض: نعمل مع الشركات التي تشارك في المعارض داخل سوريا، ننظم حجوزات الفنادق والقاعات والاستقبال من المطار، لكن هذه الأحداث قليلة جداً، وعدد المكاتب التي ما زالت تعمل باحترافية في هذا المجال محدود جداً.
ورشة عمل سياحية كبيرة
ويقدّم أبو الشامات مجموعة من المقترحات الجريئة للنهوض بالسياحة، تبدأ بإعادة الاعتبار لمكاتب السفر نفسها: سابقاً كان للمكاتب حقّ إدخال السياح بدون رسوم فيزا، وهذا شجع السياحة المنظمة، عندما يأتي السائح عبر مكتب سياحي محترف، يحصل على تجربة متكاملة: إقامة، نقل، دليل سياحي، وصورة إيجابية عن البلد…
حالياً يأتي السائح بمفرده ويدفع رسوم الفيزا ويتصرف دون تنظيم، وهذا يضرّ بالقطاع كله.
ثم ينتقد غياب مبدأ المعاملة بالمثل في التعامل مع الوفود العربية: السياح القادمون من الأردن يدخلون بحافلات أردنية مع مندوب أردني، ويتفقون مع الفنادق مباشرة، بينما لا يُسمح للمكاتب السورية بالعمل بالمثل في الأردن، هذا يضرّ بمكاتبنا ويجعلها خارج دائرة الاستفادة، نطالب بأن يكون هناك مندوب سياحي سوري مرافق لأي مجموعة عربية تدخل البلاد، لتكون العملية منظمة وواضحة.
ويضيف اقتراحاً ثالثاً يتمثل في تفعيل دور غرف السياحة: يجب أن تلعب غرفة سياحة دمشق والجمعيات السياحية دوراً أكبر في تنشيط العملية، لأن لديهم خبرة ميدانية كبيرة، هم ليسوا جهة تنفيذية، لكن يمكن الاستفادة من رأيهم وخبرتهم في صنع القرار.
وعن رؤيته للمستقبل، يرى أبو الشامات أن البلاد مقبلة على “ورشة عمل سياحية كبيرة”…حيث هناك استثمارات جديدة في الفنادق والمنشآت السياحية، والبلد يتحول تدريجياً إلى ورشة عمل حقيقية، إذا توفرت التسهيلات والربط المؤسسي بين الجهات، ستعود السياحة لتكون أحد أعمدة الاقتصاد الوطني.
تطوير برامج السياحة
من خلال المقابلات الثلاث، نتعرف على تحديات السياحة السورية لتتمثل بالنقاط التالية:غياب الإيواء الكافي، وارتفاع الأسعار، وغياب التنسيق بين الأطراف، إضافة إلى مشكلة الفيزا التي تُقيد حركة العاملين والسياح معاً.
الجدوع يرى في الإيواء الركيزة الأولى الغائبة، جباصيني يركز على الفيزا والعشوائية في تنظيم الرحلات، أبو الشامات يطرح حلولاً بنيوية عبر تفعيل دور المكاتب وربطها بالتنظيم الرسمي.
كلّ منهم ينطلق من موقعه الخاص، لكنهم يجتمعون على فكرة واحدة: أن السياحة السورية تملك كنوزاً طبيعية وتاريخية وإنسانية نادرة، لكنها تحتاج إلى تنظيم وتسهيلات وإرادة تنفيذية حقيقية.
ونحن نعيش كل هذه التغيرات يمكن للقطاع السياحي أن يكون جسراً للعودة إلى الحياة، غير أن هذا الجسر يحتاج إلى تأسيس منظومة فنادق حديثة بأسعار معقولة، مكاتب سفر منظمة ومرخصة، تشريعات مرنة، وحملات ترويجية حقيقية.