الثورة- ميسون دياب:
ساهمت حملات التبرعات المحلية في التخفيف من آثار الدمار، وتحسين البنية والخدمات الأساسية، وتعزيز التماسك الاجتماعي في المدن والقرى المتضررة، رغم محدودية تأثيرها على الاقتصاد الكلي، إذ يظهر أثرها الإيجابي بوضوح على المستوى المحلي، وتشكل دعماً أساسياً لأدوات تنموية مستدامة.
اختتمت يوم أمس الأحد، حملة “فداء لحماة” بجمع 210 ملايين دولار أميركي كتبرعات تدخل ضمن صندوق خاص بالحملة، لتمويل مشاريع خدمية وإعادة تأهيل بنية تحتية متنوعة، في مشهد يعكس عودة الروح إلى المبادرات المجتمعية، وارتفاع منسوب التضامن الأهلي في مواجهة آثار الحرب.
وتنوّعت التبرعات في حملة “فداء لحماة” بين مبالغ نقدية، وتعهدات مالية من منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى عقارات وهبات عينية قدّمها أصحابها، وسط حضور رسمي و شعبي كثيف يعكس رغبة واضحة في المساهمة في ترميم المدن المتضررة والنهوض بخدماتها الأساسية.
هذا الزخم الشعبي لم يأتِ من فراغ، بل يندرج ضمن موجة متصاعدة من المبادرات المجتمعية التي شهدتها المحافظات السورية منذ مرحلة التحرير. فقد سبقت حملة “فداء لحماة” مبادرات كبرى أبرزها “الوفاء لإدلب” التي حققت رقماً قياسياً بلغ 208 ملايين دولار، إلى جانب حملات “أربعاء حمص”، و“أبشري حوران”، و“دير العز”، و“ريفنا بيستاهل”، التي تجاوز مجموع تبرعاتها مجتمعة 155 مليون دولار أميركي.
وفي السياق ذاته، تستعد محافظة حلب لإطلاق حملة “حلب ستّ الكل” وسط توقعات ببلوغها أرقاماً استثنائية.
لم تقتصر حملات التبرع على مستوى المحافظات، بل شملت عشرات المبادرات على مستوى المدن والبلدات والقرى الأكثر تضرراً، مثل حملتي “وفاء لكفرنبل” و”لعيونك يا جرجناز” في إدلب، والتي نُفذت بتنظيم مماثل للحملات على مستوى المحافظات، إلى جانب مبادرات محلية نظمتها المجالس والفعاليات المحلية.
إعادة التوازن وتقوية النسيج المجتمعي
لا يتوقف أثر هذه الحملات عند جمع التبرعات ، وإنما يمتد ليكشف عن دور جديد يتبلور داخل المجتمع السوري، دور يعيد إنتاج طاقاته ويؤسس لمرحلة مختلفة من التعافي الاجتماعي، ومن هذا المنطلق يمكن فهم البعد الاجتماعي لهذه المبادرات.
وتتجاوز هذه المبادرات بعدها الإغاثي المباشر، لتشكل ” أداة فعّالة في إعادة تنشيط روح المبادرة والتكافل داخل المجتمع السوري الذي تعرض خلال السنوات الماضية لخلل عميق في تماسكه، وتراجع في دوره الاقتصادي والاجتماعي مع تلاشي الطبقة الوسطى” وفق توصيف عبد الناصر حوشان، عضو مجلس الشعب عن محافظة حماة في حديثه لـ“الثورة”.
ويرى حوشان أن تأمين الخدمات الأساسية عبر هذه التبرعات، مثل الكهرباء والطرقات والمياه، يساهم في تشجيع عودة النازحين إلى مدنهم وبلداتهم، ويعيد التوازن الديموغرافي خصوصاً في المناطق الزراعية التي يعتمد أهلها على النشاط الزراعي كمحرك رئيسي للحياة اليومية.
ويضيف أنّ التماسك الاجتماعي بات اليوم ركناً أساسياً من ركائز الاستقرار، وهو ما يتحقق من خلال توفير بيئة خدماتية وفرص عمل تمنح الناس القدرة على إعادة بناء حياتهم بآليات ذاتية ومستندة إلى التعاون الأهلي.
تأثير محدود على الاقتصاد الكلي لكنه فعّال محلياً
من جانبه، يشير الأكاديمي والباحث الاقتصادي حيان حبابة في حديثه لـ”الثورة” إلى أن حملات التبرعات، رغم أهميتها، “لا تكفي وحدها لتغطية احتياجات إعادة الإعمار الهائلة التي تتراوح بين 600 و900 مليار دولار لإعادة بناء الرأسمال المادي والاجتماعي، بينما تحتاج البنية التحتية وحدها إلى ما لا يقل عن 220 مليار دولار بحسب تقديرات البنك الدولي”.
ويؤكد حبابة أن تأثير هذه الحملات على المستوى الوطني يبقى محدوداً، لكنها تحدث فرقاً ملموساً على المستوى المحلي حيث تنعكس التبرعات مباشرة على قطاعات محددة مثل التعليم وشبكات المياه والطرقات، ويرى أن غياب دور الدولة في بعض المناطق “مبرّر” نظراً لضخامة الاحتياجات مقابل محدودية الموارد وضعف الاستثمارات والعقوبات المفروضة، ما يجعل العمل الأهلي أداة مساندة لا غنى عنها. وهو ما يحسّن جودة الحياة ويعيد الدورة الاقتصادية المحلية تدريجياً.
حملات تعيد بناء الجسور بين الناس
بدوره، يقدم الدكتور وليم مرهج طه، الأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق، قراءة اجتماعية أعمق في حديثه لـ “الثورة”، معتبراً أن حملات التبرعات تجسد إحياءً عملياً لمفهوم التماسك المجتمعي، فهي ” تعزز الثقة بين مكونات المجتمع المدني، وتحقق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وتخلق بيئة يقوم فيها الأفراد بدور مشترك في مواجهة التحديات، ما يسمح بخلق مجتمع قادر على مواجهة الأزمات وبلوغ تنمية مستدامة”.
ويشير الدكتور طه إلى أن حملة “فداء لحماة” كسابقاتها تجاوزت الأثر الرمزي أو المعنوي للفعالية، وأحدثت أثراً اجتماعياً عميقاً من خلال إعادة بناء جسور الثقة بين الناس، وتأكيد أن المجتمع
السوري لا يزال قادراً على حمل مسؤولياته تجاه المناطق المتضررة
الطريق نحو أثر مستدام
ويرى الدكتور طه أن هذا الحراك الشعبي بوجود إشراف مباشر من قبل مؤسسات الحكومة التي تتولى تنظيم الحملات يضمن إيصال التبرعات إلى مستحقيها بشفافية ووفق أولويات التنمية الوطنية ويعتبر أن الانتقال من منطق “الإغاثة” إلى “التمكين” ضرورة ملحة، من خلال توجيه جزء من التبرعات لإنشاء مشاريع صغيرة منتجة، إقامة مشاغل حرفية ومنشآت زراعية صغيرة لتأسيس اقتصاد محلي متين، إنشاء صناديق وقفية تنموية تديرها لجان موثوقة بالشراكة مع البلديات، دعم البنى التحتية الحيوية مثل المدارس والمشافي بموارد مستدامة.
تُظهر حملات التبرعات المحلية في سوريا أن النهوض بالأحياء والمدن المنكوبة لا يتطلب انتظار مشاريع كبرى بقدر ما يحتاج إلى طاقة اجتماعية منظمة تستثمر روح التضامن الأهلي، ورغم محدودية أثرها على الاقتصاد الكلي، فإن قدرتها على تحريك عجلة الخدمات، وتحسين الحياة اليومية، وتعزيز التماسك الاجتماعي تجعل منها أحد أهم أدوات التعافي المبكر في سوريا الجديدة.