ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
ترسم نتائج الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي إحداثيات انزياح قسري لأفول أوروبي يماثله انزياح أكثر قسرية للتاج البريطاني، وربما كان صادماً لأبسط المسلّمات التي فرضت سطوتها وهيمنتها على العلاقات الدولية في العقدين الماضيين على الأقل،
حين كان الترويج للتكتلات العالمية السمة الأكثر حضوراً، والأكثر فاعلية في إنتاج «بروباغندا» دعائية غربية لمستقبل العالم، الذي تحكمه بالضرورة، أو يجب أن تحكمه، العلاقات الاقتصادية بعيداً عن أي معايير أخرى، سياسية كانت أم إيديولوجية.وكانت المنطقة على حدّ المنشار الأوروبي الذي يجزّ في قضاياها صعوداً وهبوطاً.. في سنيّ تفاهمات ساسته ودوله، وفي عهود خلافاتهم وانقساماتهم.
فالواضح أن سياق الخروج البريطاني يفتح الباب على مصراعيه أمام تداعيات لا تقف عند حدود العتبة الأوروبية، ولا تحتكم للنص الأوروبي بهذا الشأن أو للظرف الذي دعا بريطانيا للخروج المدوي، بقدر ما يشكل سابقة قابلة للتكرار وحتى للتعميم أوروبياً وغربياً أكثر منه في المنطقة أو ما بعدها، بل يبدو مغرياً لخطوات مماثلة وجدت في سطوة الكبار داخل الاتحاد الأوروبي مساراً يُصعِّب متطلبات البقاء في ظله، ويفرض واقعاً يتجاوز سقف المقدرة على التأقلم معه، وفي الجانب الأخطر منه يشكل هاجساً ينعش الأمنيات لدى تجارب أخرى، إذ وصل صداه إلى تكساس الأميركية، فيما المحاولات الانفصالية في أوروبا ذات الطابع الجغرافي أو القومي والوطني تجد ملاذاً تحتمي به تبعاً للتجربة على الأقل.
ضمن هذا السياق فإن التداعيات ليست محصورة بانفجار الكمّ الضخم وغير المسبوق من الهواجس والمخاوف التي تجتاح أوروبا على نحو صاعق، وكأن النتائج مفاجئة إلى الحدّ الذي استفاقت به أوروبا على ما لا يُصدق، رغم أن بعض الاستطلاعات كانت تضع بالحسبان إمكانية فوز الداعمين للخروج البريطاني وإن كانت بنسب أقل، والأخطر أن تبدأ القرارات انطلاقاً من تمنيات أكثر مما تحاكي الواقع وأن ترسم خطاً مقلقاً من التحديات التي بدأت تفرض حضورها على أجندة العلاقات الدولية.
التقسيم شَبحٌ يطلُّ برأسه من الاستفتاء البريطاني، لكنه محمول بالأصل على أجندات ذات طابع راديكالي وسبق أن أعلن وجوده عبر مجموعة من المحاولات الخجولة، التي بدت أقرب إلى تبرئة الذمة أكثر مما هي جدية في سياق البحث عن مخارج لمجموعة من الأزمات التي تعصف بأوروبا الموحدة كما كان قبلها، حيث طَبلُ التقسيم الذي يقرع غرباً وشرقاً.. شمالاً وجنوباً يبدو أنه كان يحضّر لعرس من حيث لا يتوقعه أحد، وقد بدأ بالفعل من بريطانيا، حيث الخروج ليس فقط من أجل الاحتجاج على اتحاد قسري، بل أيضاً تعبير عن ضيق مما آلت إليه العلاقات الدولية، وهذا تقزيم لرأي الشعوب وخصوصيتها التي صهرتها الاحتكارات وبالغت في طمسها وقهرها وممارسة أقسى درجات الاستبداد حيالها.
فالخروج البريطاني ليس طلاقاً ودّياً، ولا هو فراق بالتراضي، بقدر ما يحمل في طيّاته قسرية وعدائية، وكثيراً من التحامل السياسي المبني على نظرات مبطنة من الشك والاتهام المتبادل بشأن الغاية والهدف ناهيك بسوء الظن الذي يهدد بانفجار وشيك وعلني في تحديد المسؤولية التي يتحمّلها الطرفان، وما يترتب عليها سياسياً واقتصادياً، وعلى الخرائط التي تتحضر الطبوغرافيا لإعادة النظر في إحداثياتها، كما تتجهز الأمم المتحدة لإضافة المزيد من الوجود العددي للدول على لائحتها في وقت يبدو أنه أسرع مما هو متوقع.
انتعاش طموحات الانفصال والتقسيم والتلويح بخيارات الخروج من الطاعة الأوروبية لن يكون محصوراً في بريطانيا، وخطوات ذلك أو مؤشراته على الأقل بدأت بالبزوغ المبكر والعلني، في حين إن بريطانيا ذاتها أمام امتحان قسري أيضاً لطموحات شعوب قبلت بالتاج البريطاني، لكنها لم تقبل أن تكون مجردة حتى من هويتها السياسية، حيث الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، قد تمر عقود طويلة من دون أن ترى الشمس، لتكتفي عاصمتها بالضباب إلى إشعار آخر.
لقد دفعت هذه المنطقة تاريخياً فاتورة الأطماع الأوروبية في حقبة سطوتها، كما دفعت فاتورة نزاعاتها وحماقات ساستها وأحياناً كثيرة ثمناً لنزواتهم في حقب انزوائها وتراجعها على المسرح العالمي، فشعوب المنطقة لم تكن يوماً تريد أن تدفع ثمن انقسامات الأوروبيين، بل كانت تعوّل على اتحاد أوروبا ليكون دليلاً، أو على الأقل عوناً لها في تخطي المشكلات، لكن ما حصل أن المنطقة كانت على الدوام جزءاً من ضريبة الانقسام، وهدفاً للاستباحة في زمن الوحدة والاتحاد، وعلى أجندات أوروبا في عصور الهيمنة.
ما نجزم به أن الهمَّ الأوروبي انتقل إلى أروقتها الداخلية، وإلى ساحات سياساتها المباشرة، وثمة من يحسم المسألة بأن الانشغال الأوروبي سينعكس بالضرورة على انحسار الاهتمام بما هو خارجها، بحكم التراجع في التأثير من جهة، وحجم التحديات التي لم تعد فيها أوروبا أكثر من ظلٍّ يتآكل مع الوقت ويندحر مع الزمن، لكن المؤكد أنها حتى في تراجعها لن تكفَّ عن تصدير همومها وانقساماتها لتلقي بظلالها على المنطقة وترسم على إحداثياتها خطوط عرض وطول من المشكلات والأزمات.
a.ka667@yahoo.com