ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم : أن ينافق الأميركي فليس هناك ما يستحق التوقف عنده، وأن يكون الأوروبي والغربي تحديداً تابعاً له حتى في نفاقه أمر بات مسلماً به في البنية السياسية والفكرية وحتى الأخلاقية للخطاب الغربي عموماً.
لكن أن يكون هذا النفاق ذاته مدخلاً أيضاً للتنظير في الشعارات البراقة والتي تحت لوائها ورايتها يتم انتهاك المعايير، فالمسألة تستحق التمعن، وحتى التدقيق في الاعتبارات السياسية التي تحكمها – ليس لاكتشاف ما هو مكتشف – وإنما في آليات التعبير التي تحكم منطق السياسة الأميركية والغربية في المجمل.
لا أحد ينكر أن الأميركي الذي اعتمد سياسة النفاق طريقاً لتبرير ازدواجية مهينة لمعايير الشعوب والأمم يواجه اليوم معضلة التفسير لكثير من الظواهر التي ترتبط مباشرة بتداعيات هذا النفاق والنتائج التي تترتب عليه سياسياً وأخلاقياً.
فإذا كان من الصعب على كثير من شعوب العالم هضم تلك الممارسات، أو حتى تفهم دوافعها، فإن الخطاب الأميركي لم يكن معنياً في أي وقت من الأوقات بتقديم التفسير، ولا حتى شرح عوامل ومحددات السلوك الأميركي، وغالت المفاصل الأساسية المعنية بصنع القرار الأميركي في تجاهل الأسئلة المحيرة التي انتصبت، بل تعمدت في الكثير من الأحيان توظيف تلك الحيرة لتمرير ما عجزت عن قوله في العلن، وفي بعضها الآخر كانت تستخدمه للخروج من ورطة ما ينتج عن سياساتها حين تنقلب ضدها.
الأمثلة المنتصبة اليوم لم تعد حكراً على تداعيات العلاقة مع تنظيم القاعدة وشبهة الوقوف الكامل وراء نشوئه وتمويله وتوظيفه، بل تمتد إلى سائر الحركات ذات الطابع الجهادي التكفيري، ووصلت أيضاً إلى الحلقات الأخرى التي ارتدت لبوساً مغايراً أو معاكساً لنسخة القاعدة، بتدرج ألوان طيفها الأصولي يمينا ويساراً.
وحين واجهت أميركا التباس العلاقة مع تنظيم القاعدة وتحديداً الدور السعودي الأساسي، والقطري الاستثنائي، لجأت إلى النفاق في تبرير لم تكن مضطرة له، لكنها بحكم العادة كانت تسوّغ ما لا يحتاج إلى تسويغ، وتبرر حين لا يكون التبرير مطلوباً.
الأمر ذاته ينطبق في سياق الموقف مما يجري – ليس في سورية فحسب، بل في كل التطورات التي شهدتها المنطقة عموماً – حين كسرت أميركا ظاهرياً تابو التعاطي مع الحركات الجهادية علناً، بعد أن كانت قد حطمته سراً منذ وقت طويل، فيما تذهب المعطيات إلى القول بأن هذا التابو لم يكن سوى أحد الأوهام التي سيطرت على النظرة إلى العلاقة بين أميركا والحركات الإسلامية والجهادية تحديداً.
المفجع في الأمر أن هناك من يبني على بعض التقولات الظاهرية حتى لو جاءت بصيغة قرار تصنيفي للإرهاب، ومثالها جبهة النصرة، ويسوّقها على أنها تراجع أو انعطاف في الموقف الأميركي، فيما هو في حقيقته أحد أوجه النفاق الأميركي الأكثر صراحة ووضوحاً لسببين على الأقل:
الأول يتعلق بمعرفة الإدارة الأميركية ومن موقع اليقين بأن ما ينطبق على جبهة النصرة ينطبق على سائر أخواتها من التنظيمات التي تحمل السلاح في وجه الحكومة السورية، وأن تعدد التسميات واللوائح والشعارات لا يغير في الحقيقة شيئاً، وكما هي تعتمد المنطق الجهادي التكفيري، فإن البقية تعتمده بالقدر ذاته، وبعضها على الأقل يزايد على جبهة النصرة ذاتها، وهو ما يمكن استنتاجه بوضوح في الدفاع المستميت من قبل ائتلاف الدوحة عن الجبهة واستنكارهم للقرار الأميركي، واعتبار أن البندقية التي تحملها هي ذات البندقية التي يحملها مرتزقته وإرهابيوه.
والثاني أيضاً له صلة مباشرة بمعرفة الإدارة الأميركية وبالتفصيل عمق العلاقات القائمة بين حلفائها «أدواتها» وجبهة النصرة وأخواتها جميعاً دون استثناء، وأن من تسميهم حلفاءها علناً ولا تراهم إلا أدوات رخيصة في سرها، هم من يموّل ويحتضن ويسلّح ويرعى تلك التنظيمات بما فيها جبهة النصرة ذاتها، وأنهم وراء كل بندقية دخلت إلى سورية وخلف كل رصاصة تطلق على السوريين من عسكريين ومدنيين، وهم من يرسم سياسة ممنهجة لتدمير بنية الدولة السورية تعويضاً عمّا عجزت عنه هي وإسرائيل.
في العرف السائد عملياً أن أميركا تجاهر في الانقلاب على صنيعتها ومنتجها، حين تخرج تلك التنظيمات عن السياق الذي رسمته، أو عندما تتعارض المصالح الأميركية مع الحيز الذي رسمته لتلك التنظيمات، لكن النفاق الأميركي هذه المرة لم ينتظر هذا الفراق القسري والطبيعي حتى أعلنت عن رفع الغطاء السياسي، كما أنها في العادة حين تعلن ذلك الفراق تتبعها في الطريق ذاتها جميع أدواتها وتسبقها في بعض الأحيان توابعها الأوروبية، فلماذا تباطأت الاستجابات المعهودة من قبل حلفائها وأدواتها، وبعضها انتفض على السيد الأميركي؟!
لا نعتقد أن الإجابة صعبة في ظل الحديث عن النفاق الأميركي، لأنه بالأساس وجد دائماً كمسلك للهروب من الإجابات المحرجة، لكنها في زمن النفاق الكلي تبدو مستعصية على الفهم في القراءة لجهة تبويبها، وتحت أي خانة يجب أن تصنف.
ما يمكن الجزم به سواء كان نفاقاً أميركياً عادياً أم استثنائياً.. موارباً أو صادماً فإن الحصيلة تكاد أن تكون واحدة، وهي في معايير التصنيف تضيف أبعاداً ودلالات قد لا تغير في واقع الحال بقدر ما تؤكد الاتجاه الذي تسلكه الإدارة الأميركية في نفاقها المزدوج، حين تعلن القطيعة في وقت تقرّ بمعرفتها وهندستها لقنوات التواصل بين أدواتها في المنطقة وبين تلك التنظيمات التي لم تفقد بعد كامل صلاحياتها، حفاظاً على خط التصالح معها، وإعادة توظيفها، وخصوصاً إذا ما اضطرتها عواصف التغييرات في المنطقة إلى إعادة استخدامها بمقدمات متشابهة مع تلك التي اضطرتها إلى مهادنة تنظيم القاعدة والسكوت على العلاقات الوثيقة التي تربطه مع السعودية مثلاً، أقدم أدواتها في المنطقة، أو غض النظر عن التنسيق الجاري بين جبهة النصرة وأخواتها ومشتقاتها في سورية وبين قطر أحدث أدواتها المؤهلة للتضحية بها في وقت قريب، وصولاً إلى سكوتها عن دور الضلع الثالث في ثالوث « النصرة » التركي وحماسته المنقطعة النظير، دعماً واحتضاناً وتدريباً وتدخلاً!!
a.ka667@yahoo.com